وقوله تعالى جوابا لهم ومقابلة على صنيعهم:( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون )
وقال ابن جرير:أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة ، في قوله:( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) الآية [ الحديد:13] ، وقوله تعالى:( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) [ آل عمران:178] . قال:فهذا وما أشبهه ، من استهزاء الله تعالى ذكره ، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين ، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ، ومتأول هذا التأويل .
قال:وقال آخرون:بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه ، والكفر به .
قال:وقال آخرون:هذا وأمثاله على سبيل الجواب ، كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به:أنا الذي خدعتك . ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه ، قالوا:وكذلك قوله:( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) [ آل عمران:54] و ( الله يستهزئ بهم ) على الجواب ، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى:أن المكر والهزء حاق بهم .
وقال آخرون:قوله:( إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ) وقوله ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ النساء:142] ، وقوله ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) [ التوبة:79] و ( نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة:67] وما أشبه ذلك ، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جزاء الاستهزاء ، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى:( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى:40] وقوله تعالى:( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) [ البقرة:194] ، فالأول ظلم ، والثاني عدل ، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما .
قال:وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك .
قال:وقال آخرون:إن معنى ذلك:أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا:إنا معكم على دينكم ، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما يظهر لهم - من قولنا لهم:صدقنا بمحمد ، عليه السلام ، وما جاء به مستهزئون ؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا ، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، يعني من العذاب والنكال .
ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره ؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل ، بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك .
قال:وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس:حدثنا أبو كريب ، حدثنا عثمان ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى:( الله يستهزئ بهم ) قال:يسخر بهم للنقمة منهم .
وقوله تعالى:( ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) قال السدي:عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة [ قالوا] يمدهم:يملي لهم .
وقال مجاهد:يزيدهم .
قال ابن جرير:والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم ، كما قال:( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأنعام:110] .
والطغيان:هو المجاوزة في الشيء . كما قال:( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ) [ الحاقة:11] ، وقال الضحاك ، عن ابن عباس:( في طغيانهم يعمهون ) في كفرهم يترددون .
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة ، وبه يقول أبو العالية ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد:في كفرهم وضلالتهم .
قال ابن جرير:والعمه:الضلال ، يقال:عمه فلان يعمه عمها وعموها:إذا ضل .
قال:وقوله:( في طغيانهم يعمهون ) في ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ، يترددون [ حيارى] ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ، ولا يهتدون سبيلا .
[ وقال بعضهم:العمى في العين ، والعمه في القلب ، وقد يستعمل العمى في القلب أيضا:قال الله تعالى:( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [ الحج:46] ويقال:عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه ، وجمعه عمه ، وذهبت إبله العمهاء:إذا لم يدر أين ذهبت .