فكشف القرآن عن هذا التلون وهذه الذبذبة ، وقابلهم عليها بما هم بنيانهم ، وفضح بهتانهم ، فقال{ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} .{ الله يستهزئ بهم} أصل الاستهزاء الاستخفاف وعدم العناية بالشيء في النفس ، وإن أظهر المستخف الاستحسان والرضا تهكما .وهذا المعنى محال على الله تعالى ، والمحال بذاته يصح إطلاق لازمه ، والمستهزئ بإنسان في نحو ومدح لعلمه واستحسان لعمله مع اعتقاد قبحه ، غير مبال به ولا معتن بعلمه ولا بعمله ، حيث لم يرجعه عنه ولم يكرهه عليه ، ويلزمه استرسال المستهزأ به في عمله القبيح .فمعنى:الله يستهزئ بهم [ أنه يمهلهم فتطول عليهم نعمته ، وتبطئ عنهم نقمته] ثم يسقط من أقدارهم ويستدرجهم بما كانوا يعملون{ ويمدهم في طغيانهم يعمهون} والعمه عمى القلب وظلمة البصيرة ، وأثره الحيرة والاضطراب ، وعدم الاهتداء للصواب .
أقول:هذا ملخص سياق الدرس .وقال الراغب:العمه التردد في الأمر من التحير .يقال:عمه فهو عنه وعامه وجمعه عمه ( بالتشديد ) ا ه والاستهزاء فعل الهزء – بسكون الزاي وضمها – وقصده بالعمل وهو اسم من هزئت به ومنه ، وفي لغة هزأت – فهو من بابي تعب ونفع – واستهزأت به أي استخفت به وسخرت منه .
وقال البيضاوي:والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، يقال:هزأت به واستهزأت بمعنى – كأجبت واستجبت – وأصله الخفة ، من الهزؤ وهو القتل السريع ، يقال:هزأ فلان إذا مات ، وناقته تهزأ به ، أي تسرع وتخف .وقال الراغب الهزء مزح في خفية ، وقد يقال لما هو كالمزح .ثم قال:والاستهزاء ارتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزؤ كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة ، وإن كان يجري مجرى الإجابة .ثم قال بعد ذكر آيات من الشواهد:والاستهزاء من الله في الحقيقة لا يصح كما لا يصح من الله اللهو واللعب تعالى الله عنه .وقوله{ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} أي يجازيهم جزاء الهزؤ ، ومعناه:أنه أمهلهم مدة ثم أخذهم مغافصة ( أي مفاجأة على غرة ) فسمى إمهاله إياهم استهزاء من حيث إنهم اغتروا به اغتراره بالهزؤ فيكون ذلك كالاستدراج من حيث لا يعلمون .ا ه .وأشهر الأقوال:أن معناه يجازيهم بالعقاب على استهزائهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم{ 57:13 يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا:انظرونا نقتبس من نوركم ، قيل أرجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} الآية وقال تعالى{ 83:29- 35 إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون – إلى قوله – فاليوم الذين آمنون من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون} وقيل:إن استهزاءه تعالى بهم إجراؤه أحكام المسلمين عليهم في الدنيا كما مر في خداعه لهم .
والطغيان مجاوزة الحد في العصيان .مأخوذ من طغيان الماء وهو تجاوز فيضانه الحد المألوف .والمدّ الزيادة في الشيء متصلة به ، يقال:مد البحر زاد وارتفع ماؤه وانبسط .ومده الله قال تعالى{ 31:28 والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} ومد البحر يقابله الجزر ، وهو انحسارا مائه عن الساحل ونقصان امتداده .ويسمى السيل مدا في قبيل التسمية بالمصدر ، ومنه المدة من الزمان ، والمدد – بالتحريك – للجيش .يقال مده وأمده .قال تعالى{ 19:75 قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا * حتى إذا رأوا ما يوعدون – إما العذاب وإما الساعة – فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا} وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام{ 6:109 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} والمعنى:أن سنة الله تعالى في الذين وصلوا إلى هذه الغاية من فساد الفطرة هو ما بينه بقوله فيهم:{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} .