وكأن سليمان قد استبطأ إحضاره عرش تلك المملكة في هذه الفترة التي حددها ذلك العفريت القوى، فنهض جندي آخر من جنوده، ذكره القرآن بقوله:قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ، أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. قالوا:والمراد بهذا الذي عنده علم من الكتاب:آصف بن برخيا، وهو رجل من صلحاء بنى إسرائيل، آتاه الله- تعالى- من لدنه علما، وكان وزيرا لسليمان.
قالوا:وكان يعلم اسم الله الأعظم، الذي إذا دعى به- سبحانه- أجاب الداعي، وإذا سئل به- تعالى- أجاب السائل.
قيل:المراد به سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا العفريت، فكأنه استبطأ ما قاله العفريت فقال له:- على سبيل التحقير- أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.
وقيل:المراد به جبريل. والأول هو المشهور عند المفسرين.
أى:قال الرجل الذي عنده علم من كتاب الله- تعالى- يا سليمان أنا آتيك بعرش بلقيس، قبل أن تغمض عينك وتفتحها، وهو كناية عن السرعة الفائقة في إحضاره.
وفي ذلك ما فيه من الدلالة على شرف العلم وفضله وشرف حامليه وفضلهم وأن هذه الكرامة التي وهبها الله- تعالى- لهذا الرجل، كانت بسبب ما آتاه- سبحانه- من علم.
وجاء عرش الملكة لسليمان من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، بتلك السرعة الفائقة فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أى:فلما رأى سليمان العرش المذكور حاضرا لديه، وكائنا بين يديه ... لم يغتر ولم يتكبر، ولم يأخذه الزهو والعجب. بل قال- كما حكى القرآن عنه-:هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ.
أى:قال سليمان:هذا الذي أراه من إحضار العرش بتلك السرعة من فضل ربي وعطائه، لكي يمتحننى أأشكره على نعمه أم أجحد هذه النعم.
وَمَنْ شَكَرَ الله- تعالى- على نعمه فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ حيث يزيده- سبحانه- منها.
وَمَنْ كَفَرَ نعم الله- تعالى- وجحدها فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن خلقه كَرِيمٌ في معاملته لهم، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، بل يعفو ويصفح عن كثير من ذنوبهم.
ثم ختم- سبحانه- هذه القصة البديعة، ببيان ما فعله سليمان بالعرش، وبما قاله لملكة سبأ بعد أن قدمت إليه، وبما انتهى إليه أمرها، فقال- تعالى-:
وَمَنْ شَكَرَ الله- تعالى- على نعمه فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ حيث يزيده- سبحانه- منها.