{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} وقد اختلف في اسمهبعد أن ذكروا أنه من الإنسفقيل إنه آصف بن برخيا وزير سليمان ووصيّه ،وقيل: هو الخضر ،وقيل: رجل كان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سُئل به أجاب ،وقيل: جبرائيل .
وقد اختلف في المراد بالكتاب الذي يملك هذا الشخص علمه هل هو الكتاب المعروف مما جاءت به الرسالات الإلهية ،أو اللوح المحفوظ ،أو نوع آخر مما يوحي بالعلم الخفيّ الذي يملك أسرار الأشياء فيتيح له التصرف بها بطريقة عجيبة لم تألفها القدرة الطبيعية للناس والأسباب المألوفة للأمور ؟
وقد لا يكون هناك كبير فائدةٍ في الاستغراق في هذه الاحتمالات ،لأننا لن نصل منها إلى نتيجةٍ حاسمةٍ بعد أن كانت غيباً لا نملك معرفته في طبيعته ومصادره الموثوقة ،فلنقتصر منها على ما أجمله القرآن في أمره ولنستوح من ذلك أن هذا العلم الذي يملكه هذا الشخص ،ليس من نوع العلم المألوف لدى الناس ،الذي يكتسبونه بالفكر والتعلّم ،بل هو من نوع العلوم الروحية التي تطلّ على الغيب من موقعٍ متقدم ،وتتيح لصاحبه أن يتصرف في الأمور الكونية بما يشبه المعجزة .ولكن ،كيف تعلَّم هذا الرجل ذلك ،وما هي خصوصيته وما هي مكانته ؟هذه علامات استفهام لا نجد جواباً عليها ،ولا نرى كبير فائدة في إثارتها وفي البحث عنها في ما يجب علينا معرفته من شؤون العقيدة والحياة .فكل ما ينبغي لنا التركيز عليه ،هو أن هذا الرجل العظيم قد اختصر المدة الزمنية التي يحتاجها نقل العرش إلى مستوى اللحظة ،في مواجهة العرض الذي قدَّمه العفريت الجنيّ بما قبل قيام سليمان من مقامه .وهكذا قال لسليمان:{أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} فلم ينته هذا الرجل من كلامه حتى كان العرش أمام سليمان .
{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وهكذا كان هذا الحدث العجيب الذي جعله الله نعمةً لسليمان في ما يمثله من مواقع القوة لديه مما يملكه أعوانه من وسائلها ،وتعامل معه في خشوع وخضوع لله ،حيث أوحى لنفسه ولغيره ،أن هذا من فضل الله عليه ،مما يتفضل به على عباده ورسله من نعمه ،ليختبرهم هل يشكرونه بالطاعة والاعتراف بفضله ،أو يكفرون به ،بالتنكر له ولنعمه ..{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن الله لا يحتاج إلى عباده في كل أفعالهم ،بل هم الذين يحتاجون إليه في كل شيء ،حتى في الأمور التي يقومون فيها بفروض العبادة التي تمثل الشكر العملي له ،فإنهم يحصلون من خلالها على صفاء الروح والعقل ،واستقامة السلوك العملي في الخط الصحيح ،وينفتحون على العمق الإنساني في شخصياتهم عندما يعبرون عن انفعالهم بالقيم الروحية في استجابتهم للإحسان الإِلهيّ في مواقع النعمة الظاهرة والباطنة .{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} لأنه إذا كان لا يحتاج إلى وجود الإنسان ،باعتبار أنه هبةٌ منه ،وليس حاجةً له ،فكيف يحتاج إلى التعبير اللفظي والعملي في حركته تجاه نعم الله ،وبهذا فإن كفر الكافر للنعمة يرتد إليه ليعبر به عن حقارة الشعور الإنساني لديه ،ولا يرتد على الله لأنه لا يؤثر في أيّ موقع من مواقع عظمته المطلقة وغناه الذاتي الذي لا حدّ له ،وكرمه الفيّاض باللطف والرحمة الذي يشمل عباده كلهم بعطائه ،الكافر منهم والشاكر .
وهكذا عاش سليمان أمام هذه النعمة الإلهية بتسخير الله له القوّة بجميع وسائلها ،ليؤكد سلطته التي لن يحركها في خدمة ذاته ،بل في خدمة رسالته .وبدأ يستعدّ للقاء ملكة سبأ التي اهتزت لتهديد سليمان ،فعزمت على القدوم إليه للتعرف على أهدافه ومواقفه ،ولم يكن الإِتيان بعرشها إلى مجلسه وسيلةً من وسائل التأثير على موقفها النفسي بما يشبه الصدمة التي تعبر بها إلى روحية الفطرة الصافية ،ولكنه كان يريد أن يثير فيها التفكير الذي يتحرّك بين السلب والإيجاب في الوقوف أمام هذه الظاهرة العجيبة ؛ولهذا أراد أن يجري فيه بعض التغييرات الشكلية التي قد تثير فيها احتمالاً آخر ،لتتحير فيه هل هو عرشها ،أو هو نسخة منه مشابهةٌ له .