فأنت ترى في هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما من الله- تعالى- لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات.
وقوله زُيِّنَ من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى حسنا. والزينة هي ما في الشيء من المحاسن التي ترغب الناظرين في اقتنائه.
قال الراغب:«والزينة بالقول المجمل ثلاث:زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه.. وقد نسب الله التزيين في مواضع إلى نفسه كما في قوله- تعالى- وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ونسبه في مواضع إلى الشيطان كما في قوله وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وذكره في مواضع غير مسمى فاعله كما في قوله- تعالى- زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ .
والشهوات جمع شهوة، وهي ثوران النفس وميلها نحو الشيء المشتهى. والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين.. إلخ. وعبر عنها بالشهوات للإشارة- كما يقول الآلوسى- إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض:ما تشتهي؟ فقال:أشتهى أن أشتهى. أو تنبيها على خستها:لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيها عند الله، ثم قال:والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب، وهو بهذا المعنى مضاف إليه- تعالى- حقيقة لأنه لا خالق إلا هو. ويطلق ويراد به الحض على تعاطى الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها» .
ثم بين- سبحانه- أهم المشتهيات التي يحبها الناس، وتهفو إليها قلوبهم، وترغب فيها نفوسهم، فأجملها في أمور ستة.
أما أولها:فقد عبر عنه القرآن بقوله:«من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية، ويكفى أن الله- تعالى- قد قال في العلاقة بين الرجل والمرأة هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ.
وقال- تعالى- في آية ثانية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةًوإن بعض الرجال قد يستهين بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول:«ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة. ومِنَ في قوله مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ بيانية، وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال من الشهوات. واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمرأة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغنى عن ذكر الطرفين معا، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصا في هذا المجال الذي يحرص في القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس، ولأن المرأة في هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة. وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذي يطلبها لا هي التي تطلبه.
وأما ثانى المشتهيات:فقد عبر عنه القرآن بقوله وَالْبَنِينَ جمع ابن، وهو معطوف على ما قبله، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء، واكتفى بذكر البنين، لأنهم موضع الفخر في العادة وحب الأولاد طبيعة في النفس البشرية فهم ثمرات القلوب، وقرة الأعين ومهوى الأفئدة، ومطمح الآمال، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول:رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وسيدنا زكريا يقول:رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ.
والإنسان في سبيل حبه لأولاده يضحى براحته، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام، وقد يرتكب بعض الأعمال التي لا يريد ارتكابها إرضاء لهم، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضي ذلك.
وصدق الله إذ يقول:أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
وصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول:
«الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثارا لهم بالمال، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه.
أما الأمر الثالث من المشتهيات:فقد عبر عنه القرآن بقوله وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والقناطير جمع قنطار، وهو مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، تقول العرب:قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها.
قال الفخر الرازي «القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون:إنه وزن لا يحد. واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده. فعن ابن عباس:القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية».
ولفظ الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذ من القنطار. ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة أى والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنطارا قنطارا كقولهم:دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة.
وقوله مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بيان للقناطير، وهو في موضع الحال منها.
والمراد أن الإنسان محب للمال حبا شديدا، قال- تعالى- وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ وقال تعالى- وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا.
وفي الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:«لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقالت السيدة- عائشة- رضى الله عنها- «رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا» .
وقالت:«إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال».
وإنما كان الذهب والفضة محبوبين، لأنهما- كما يقول الرازي- جعلا ثمنا لجميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء» وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته- وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب- لا جرم كانا محبوبين»
وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى في قوله- تعالى- وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ.
ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه، بل مفردة فرس فهو نظير قوم ورهط ونساء. ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل، فهو نظير راكب وركب، وطائر وطير.
وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال في مشيتها.
والمسومة:أى الراعية في المروج والمسارح. يقال:سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى. أو المطهمة الحسان، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة.
والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة، مهما تفنن البشر في اختراع صنوف من المراكب برّا وبحرا وجوّا فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة. ويقتنونها للركوب والمسابقات.. وَالْأَنْعامِ جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها.
والأنعام فيها زينة. والإنسان في حاجة شديدة إليها في مركبه ومطعمه وغير ذلك. قال- تعالى- وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ .
والْحَرْثِ مصدر بمعنى المفعول أى المحروث. والمراد به المزروع سواء أكان حبوبا أم بقلا، أم ثمرا إذ من هذه الأشياء يتخذ الإنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته.
تلك هي أهم المشتهيات في هذه الحياة إلى نفس الإنسان قد جمعها القرآن في آية واحدة، وقد اختصها- سبحانه- بالذكر لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية، أم مالية، أم غير ذلك من ألوان المتع، ومن مستلزمات الحياة.
وقد ختم- سبحانه- الآية بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التي سبق الحديث عنها، والمآب:
مصدر ميمى بوزن مفعل، من آب. كقال- إيابا وأوبا ومآبا، إذا رجع. وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفا مثل مقال.
أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة، ومطلب الناس الذي يستمتعون به، ويرغبون فيه، ويشتهونه اشتهاء عظيما في حياتهم، والله- تعالى- عنده المرجع الحسن وهو الجنة، فهي الأحق بالرغبة فيها لبقائها دون المتع الفانية.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التي جبل الإنسان على الميل إليها، وصياغة الفعل للمجهول زُيِّنَ لِلنَّاسِ للإشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز في الفطرة الإنسانية منذ أوجد. الله الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
وهذه المتشهيات ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد الإسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها، وإنما الإسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة، وأن يشكروا الله عليها، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإسلام لا يحارب الفطرة الإنسانية التي تشتهي هذه الأشياء، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل في غير ما خلقها الله من أجله، وبذلك يسعد الإنسان في دينه ودنياه وآخرته.
وللإمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه:يخبر الله- تعالى- عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد.. فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك.. وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر..
فيكون مذموما، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محمودا.. وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها ستر. وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:«خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة، . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه».
هذا، وختام الآية الكريمة بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإنسان فهي زوال، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله- تعالى- لعباده المتقين في الدار الآخرة، ولذا قال- سبحانه- بعد ذلك قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ.