أى قل يا محمد للناس الذين مالوا إلى شهوات الدنيا من النساء والبنين وغيرهما، قل لهم ألا تحبون أن أخبركم بما هو خير من تلك المشتهيات الدنيوية؟
والاستفهام للتقرير، والمراد به التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين، أى تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، وحضهم على الاستجابة لما سيلقى عليهم.
وافتتح الكلام بكلمة قُلْ للاهتمام بالمقول وتنبيه السامعين إلى أن ما سيلقى عليهم أمر يهمهم ومما يقوى هذا التنبيه هنا:التعبير بقوله أَأُنَبِّئُكُمْ لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الشأن، والتعبير بقوله ذلِكُمْ لاشتماله على الإشارة التي للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به، والتعبير بقوله بِخَيْرٍ الذي يدل على الأفضلية، لأن نعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والاضرار. ثم بين- سبحانه- المخبر عنه بعد أن مهد له بتلك التنبيهات التي تشوق إلى سماعه وتغرى بالاستجابة له فقال:لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ.
هذه هي اللذائذ والمتع التي أعداها الله- تعالى- لمن اتقاه، أى أدى ما أمره به، وابتعد عما نهاه عنه.
وأول هذه النعيم،:جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار، وفي هذه الجنات ما لا عين رأت، ولا أدن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خبر مقدم، وقوله جَنَّاتٌ مبتدأ مؤخر، وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ في محل نصب على الحال من جنات. وقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات.
وعلى هذا يكون منتهى الاستفهام عند قوله مِنْ ذلِكُمْ وهذا هو المشهور عند العلماء ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ثم يبتدأ فيقال:عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار. ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله- تعالى- عِنْدَ رَبِّهِمْ ثم يبتدأ فيقال:جنات تجرى من تحتها الأنهار.
قال ابن جرير:وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل الاستفهام منتهيا عند قوله- تعالى- بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله:لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فيكون مخرج ذلك مخرج الخير. وهو إبانة عن معنى الخير الذي قال:أنبئكم به، فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير» .
وثانى هذه النعم عبر عنه- سبحانه- بقوله خالِدِينَ فِيها أى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدون في تلك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلودا أبديّا، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال.
وثالث هذه النعم قوله- تعالى- وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ.
والأزواج:جمع زوجة وهي المرأة يختص بها الرجل. أى ولهم في تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسى ومعنوي، فقد وصف- سبحانه- هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل في المرأة.
ورابع هذه النعم قوله- تعالى- وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وهذه النعمة هي أعظم النعم وأجلها أى لهم رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون، ومنشئ الوجود. وهو مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم.
وقوله مِنَ اللَّهِ صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة.
روى الشيخان عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:«إن الله- عز وجل- يقول لأهل الجنة يوم القيامة:يا أهل الجنة فيقولون:لبيك ربنا وسعديك، فيقول:هل رضيتم؟
فيقولون:وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول:أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا:يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول:أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
هذه هي اللذائذ والمتع والنعم التي أعدها الله- تعالى- لعباده المتقين.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله:وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أى أنه- سبحانه- عليم بأحوال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم. وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. ففي هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين.