التّفسير:
هذه الآية توضّح الخطّ البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي أشير إليه في الآية السابقة .تقول الآية: هل أُخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادّية المحدودة في الدنيا ،تلك الحياة فيها كلّ ما في هذه الحياة من النِعم لكنّها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين .
بساتينها ،لا كبساتين الدنيا ،لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها: ( تجري من تحتها الأنهار ) .
ونِعمها دائمة أبدية ،لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال: ( خالدين فيها ) .
نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا ،ليس في أجسامهنّ ولا أرواحهنّ نقطة ظلام وخبث: ( وأزواج مطهّرة ) .
كلّ هذا بانتظار المتّقين .وأسمى من ذلك كلّه ،النِعم المعنوية التي تفوق كلّ تصورّ وهي ( رضوان من الله ) .
نلاحظ أنّ الآية تبدأ بجملة: «أُونّبؤكم » الاستفهامية الموجّهة إلى الفطرة الإنسانية الواعية لكي تكون أنفذ في السامع وأعمق ،ثمّ إنّ الاستفهام ينصّ على «الإنباء » التي تستعمل للإدلاء بخبر مهمّ جدير بالاستيعاب .
وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية الممزوجة بالمعصية ،فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كلّ نقص وعيب .إلاَّ أنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتّعوا بها بصورة مشروعة .
هل في الجنّة لذائذ مادّية أيضاً ؟
يظنّ بعضهم أنّ اللذائذ المادّية مقتصرة على الحياة الدنيا ،وأنّ الحياة الأخرى خالية منها ،وأنّ جميع ما جاء في القرآن عن الجنّات والفواكه والمياه الجارية والأزواج الطاهرة إنّما هي كناية عن مقامات ونِعم معنوية من باب «كلّم الناس على قدر عقولهم » .
ولكنّنا ينبغي أن نقول: إنّنا بعد أن قبلنا بالمعاد الجسماني استنادا إلى الكثير من آيات القرآن الصريحة ،فلابدّ من وجود نِعم تناسب الجسم والروح وبمستوى أرفع وأعلى .وفي هذه الآية إشارة إلى كليهما: ما يناسب المعاد الجسمانى ،وما يناسب المعاد الروحي .
في الواقع ،إنّ الذين يعتبرون نِعم الآخرة المادّية كناية عن نِعم معنوية ،إنّما يؤوّلون ظاهر آيات القرآن دون سبب ،كما أنّهم ينسون المعاد الجسماني وما يقتضيه .
ولعلّ جملة ( والله بصير بالعباد ) التي جاءت في آخر الآية إشارة إلى هذه الحقيقة ،أي أنّه يعلم ما يحتاجه الجسم والروح في العالم الآخر ،وما هي متطلّبات كلّ منهما وهو يضمن إشباع هذه الحاجات على أحسن وجه .