التّفسير:
جاذبية المتاع الدنيوي:
تعقيباً على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي للإنسانلا المال والبنين والأنصارتشير هذه الآية إلى حقيقة أنّ الزوجة والأبناء والأموال إنَّما هي ثروات تنفع في الحياة المادّية هذه ،ولكنّها لا يمكن أن تشكّل هدف الإنسان الأصيل .صحيح أنّه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في طريق السعادة والتكامل المعنوي ،إلاَّ أنّ الاستفادة منها في هذا السبيل شيء وحبّها وعبادتهابغير أن تكون مجرّد وسيلة يستفاد منهاشيء آخر .
في هذه الآية بضع نقاط ينبغي الالتفات إليها:
1مَن الذي جعل المادّيات زينة ؟
في تعبير ( زُيِّنَ للناس حبُّ الشهوات ...){[545]} جاء الفعل مبنيّاً للمجهول ،أي أنّ الفاعل المجهول قد زيَّن للناس حبّ الزوجة والأولاد والأموال .في هذه الحالة يخطر للمرء هذا السؤال: ترى من هو الذي زيَّن هذه الأمور للناس ؟
بعض المفسّرين يرون أنّ هذه المشتهيات من عمل الشيطان الذي يزيّنها في أعين الناس ،ويستدلّون على ذلك بالآية 24 من سورة النمل: ( وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم ) وأمثالها .إلاَّ أنّ هذا الاستدلال لا يبدو صحيحاً ،لأنّ الكلام في الآية التي نبحث فيها لا تتكلّم عن «الأعمال » ،بل عن الأموال والنساء والأبناء .
إنّ التفسير الذي يبدو صحيحاً هو أنّ الله هو الذي زيَّن للناس ذلك عن طريق الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية .
إنّ الله هو الذي جعل حبّ الأبناء والثروة في جبلّة الإنسان لكي يختبره ويسير به في طريق التربية والتكامل ،كما يقول القرآن ( إنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أحسنُ عملاً ){[546]} .
ممّا يثير الالتفات في الآية أنّ الزوجة أو المرأة قد وردت أوَّلاً ،وهذا هو ما يقول به علماء النفس اليوم ،بأنّ الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز في الإنسان ،كما أنّ التاريخ المعاصر والقديم يؤيّد أنّ كثيراً من الحوادث الاجتماعية ناشئة عن طغيان هذه الغريزة .
وينبغي القول أيضاً إنّ هذه الآية والآيات المشابهة لا تذمّ العلائق المعتدلة مع المرأة والأولاد والمال ،لأنّ التقدّم نحو الأهداف المعنوية غير ممكن بدون الوسائل المادّية ،وهي لا تتعارض مع نواميس الخلق الطبيعية .إنّما المذموم هو الإفراط في هذه العلائق ،وبعبارة أخرى: المذموم هو عبادة هذه الأُمور .
2ما هي «القناطير المقنطرة » و «الخيل المسوّمة » ؟
«قناطير » جمع قنطار ،وهو الشيء المحكم ،ثمّ أُطلق على المال الكثير .وإطلاق «القنطرة » على الجسر ،و «القِنْطَر » على الشخص الذكي إنّما هو لإحكام البناء أو الفكر .و «المقنطرة » اسم مفعول يدلّ على الكثرة والمضاعفة ،وذكرهما متتاليين يعني التوكيد ،كقولنا «آلاف مؤلّفة » ونقصد به الكثرة الكاثرة .
هناك من حدّد وزن القنطار بأنّه يساوي سبعين ألف دينار ذهباً ،وقال بعض إنّه مائة ألف دينار ،وقال آخرون إنّه يساوي اثني عشر ألف درهم ،ويقول بعض إنّ القنطار كيس مملوء ذهباً أو فضة .
وفي رواية عن الإمام الباقر والإمام الصادق ( عليهما السلام ) أنّ القنطار مقدار من الذهب الذي يملأ جلد بقرة .إلاَّ ا نّ كلّ هذه تشير إلى المال الوفير .
«الخيل » اسم جمع للفرس ،وتطلق على الفرسان أيضاً .والمقصود في الآية هو المعنى الأول طبعاً .
و «المسوّمة » بمعنى المعلّمة أي ذات العلامة ،فقد تُعلّم الخيل لإبراز جمال هيكلها ورشاقتها ،أو لمعرفة أنّها مدرّبة ومعدّة للركوب في ميادين القتال .
وعليه ،فإنّ الآية تعدّد ستة من ثروات الحياة وهي: المرأة ،والولد ،والمال ،والخيول الأصيلة ،والمواشي والإبل ،والزراعة ،وهي أركان الحياة المادّية .
3ما هو المراد ب ( متاع الحياة الدنيا ) ؟
«المتاع » هو الانتفاع بالشيء بعض الوقت .والحياة الدنيا هي الحياة الواطئة الحقيرة .فيكون معنى الآية: إذا عشق أحد هذه الأشياء الستة وحدها باعتبارها الهدف النهائي للحياة ،ولم يستفد منها كسلّم للصعود في مسيرة حياته ،يكون قد اختار لنفسه حياة منحطّة .
وفي الحقيقة إنّ تعبير «الحياة الدنيا » إشارة إلى سير الحياة التكاملي ،إذ أنّ هذه الحياة الدنيا تعتبر المرحلة الأُولى في ذلك السير .لذلك تشير الآية في النهاية إلى الحياة السامية التي تنتظر الإنسان فتقول ( والله عنده حسن المآب ) .
4كما تقدّم في تفسير الآية ،فقد أشارت الآية إلى النساء من بين النعم المادّية وقدّمتها على الجميع ،لأنّها بالقياس إلى النعم الأخرى أقوى تأثيراً واشدّ جاذبية لأهل الدنيا وقد تدعوهم إلى ارتكاب أعظم الجنايات في هذا السبيل .