{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ} التي تجتذب الإنسان وتثيره وتأخذ بحسّه وتتحرك في طبيعته ،من هذه الأشياء التي تتصل بحياته في امتدادها وشغفها ولذتها وشعورها بالامتلاء ،فهي قريبة إلى حاجاته الجسدية والاجتماعية والروحية والغذائية ،في أجواء الجاه الذاتي والعنفوان الإنساني{مِنَ النِّسَآءِ} التي تمثل حاجة الرجل إلى الشريك الآخر في إنتاج اللذة الجنسية المتفاعلة المندمجة ،فذلك هو الذي يحقق له عمق الإحساس الروحي بالإضافة إلى الإحساس المادي في حركيّة الجنس الزوجي ،باعتبار أن الجنس الذاتيفي العادة السرية مثلاًقد يحقق له الإحساس بالشهوة من خلال تفريغ الطاقة بطريقة ذاتية ،ولكنه لا يحقق له الغيبوبة الجنسية في اللذة المضاعفة التي تلتقي فيها المشاعر الإنسانية المتفاعلة في اللهفة المشتركة ،بالإحساس الجسدي المادي المتحرك في موسيقى حركة اللذة في الجسد .
وقد يثور سؤال: إن الحديثهناهو عن الناس الذين زيّن لهم حب الشهوات ،والكلمة تشمل الرجال والنساء ،فلماذا كان الحديث عن حب الرجل للمرأة باعتبار أنها مستودع شهوته ،ولم ينطلق الحديث عن حب المرأة للرجل ،باعتبار أنه مستودع شهوتها ،فإن الطبيعة الإنسانية واحدة في ذلك ،لاسيما أن السياق جار على الحديث عن سلبية الاستغراق في هذه الشهوات الذي يؤدي إلى الانحراف في مواجهة إيجابية التوازن فيها للانطلاق بها نحو الله والدار الآخرة مما يلتقي فيه الناس جميعاً بكل أصنافهم .
وقد يجاب عن ذلك ،بأن الرجال هم الذين يتسلمون زمام المبادرة في تحريك هذه الشهوات في الاتجاه المنحرف في وجوه الفساد ومعاصي الله سبحانه ،كاتخاذ المعازف والأغاني وشرب المسكرات وأمور غير ذلك ،وهذا مما يختص بالرجال عادةً ،ولا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذعلى حد تعبير صاحب الميزان.
ولكننا نلاحظ أن المسألة لم تنطلق من خلال ملاحظة الغلبة الواقعية في حركة الشهوات بالنسبة إلى الرجال مقارناً بالنساء ،بل انطلقتفي ظاهر السياقمن ملاحظة الوضع العام للناس الذين ينفتحون على الجانب المادي أو الحسيّ في الحياة ،ما يجعلهم مستغرقين في الدنيا بعيداً عن الآخرة .فإذا كان الرجال يمارسون إنتاج الفساد في الواقعغالباًأكثر من النساء ،فإن ذلك لا يبرر تخصيص الحديث بهمبهذه الملاحظةلأن هذا خارج عن الموضوع .
أما ملاحظتنافي الجواب عن السؤالفهو أن الخطاب القرآني في أغلب موارده خطاب مذكّر ،باعتبار أن المجتمعات التي خاطبها الأنبياء وعاشوا معها وجادلوها وخاضوا معها الصراع في ساحة الدعوة والجهاد ،هي مجتمعات الرجال ،فقد كانوا هم الذين يتحركون في الساحة ،فهم العنصر الفاعل في حركة الواقع ،بحيث يكون الدور الطبيعي للنساء هو دور المنفعل ،فالمرأة هي الإنسان المنفعل في الواقع الاجتماعي كما هي كذلك في واقع العلاقة الجسدية ،الأمر الذي يجعلها إنساناً تابعاً للرجل من ناحيةٍ واقعية ،بعيداً عن مسألة الصواب والخطأ في ذلك .هذا من جهة ،ومن جهةٍ أخرى ،فإن مجتمع الدعوة الذي نزل عليه القرآن وتحدث معه ،كان لا ينسجم مع الحديث عن حب المرأة للرجل في عالم الشهوة ،فقد كان ذلك مستنكراً عند الرجال والنساء معاً على أساس الحياء الاجتماعي ،إلا إذا كان ذلك بشكل غير مباشر في خط المسؤولية كما في قوله تعالى:{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [ النور3:1] ،أو قوله تعالى:{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [ الأحزاب:35] .
فربما كان ذلك كله هو الأساس في الحديث عن الرجال الذين هم الفئة التي تقود المجتمع في حركته في نطاق الشهوات الذاتية للإنسان وفي نطاق الرغبات والطموحات العامة ،بحيث يفهم وضع المرأة بطريقة غير مباشرة ،الأمر الذي يجعل توجيه الخطاب إليهم منسجماً مع الواقع الإنساني في مجتمع الدعوة .
وربما ذهب بعض المفسرين إلى أن السبب في الحديث عن حب الرجال للنساء دون حب النساء للرجال ،هو أن الفتنة بهن أعظمكما جاء في مجمع البيانمستشهداً بقول النبي محمد( ص ): «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء » .
ولكننا نلاحظ على ذلك ،أن فتنة النساء للرجال قد تكون في المستوى الكبير من ألوان الفتنة للرجال ،ولكن ليس من الضروري أن تكون فتنة النساء بالرجال أقلَّ تأثيراً في حياة المرأة في الجانب الغريزي ،لاسيما إذا لاحظنا في بعض الروايات أن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل بتسعة للمرأة مقابل واحدة للرجل ،إلا أن درجة الحياء عندها أكبر ،ولعلّ محاولات النساء إغواء الرجال ناشىء من فتنتهن بهم وانجذابهن إليهم ليحصلنمن خلال ذلكعلى محبتهم وانجذابهم إليهن .وربما كان مقصود صاحب المجمع بكلامه ،أن فتنتهن أعظم من الفتن الأخرى للرجال .
{وَالْبَنِينَ}: ربما يراد بالكلمة الذكور من الأولاد ،لأن الغالب في الرجال الآباء حب الذكور دون الإناث للاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية ،وربما يتعقّد بعضهم من البنات للسلبيات الاجتماعية المترتبة على ذلك ،وربما يراد بها الأعم من الذكور والإناث على نحو التغليب .
{وَالْقَنَاطِيرِ} وهوكما قيلبالإضافة إلى ما تقدم في بيان المفردات ،«ملء مسكأي جلدذهباً » أو هو «المسك المملوء » وقيل: إنه يساوي «سبعين ألف دينار ذهباً » ،وقال البعض: إنه مائة ألف دينار ،وقال آخرون إنه يساوي «اثني عشر ألف درهم » .أما كلمة{الْمُقَنطَرَةِ} فهي اسم مفعول دال على الكثرة والمضاعفة ،كما يقال: ( آلاف مؤلفة ) ويُقصد به الكثرة الكاثرة .
{وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} المرسلة للرعي أو المعلّمة الموسومة بالأشكال والألوان التي تزيد في جمالها ورشاقتها ،أو المدربة على فنون القتال .
{وَالأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم{وَالْحَرْثِ} هو الزرع .
وهكذا تتحدث الآية عن متاع الحياة المادية للناس ،وهي النساء والبنون والأموال والخيل والأنعام والزرع ،وهذه هي التي تستقطب اهتمامات الإنسان في الحياة الخاصة والعامة .
{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَياة الدُّنْيَا} الذي يستمتع الإنسان به في بعض الوقت ثم يفارقه ،فلا استمرار له في حياته ،ولا جذور له في ذاته ،بل هو من حاجات هذه الحياة الدنيا التي يعيش الإنسان فيها تحت تأثير ضروراته المادية ،فليس فيها أيّ سموّ أو ارتفاع في درجاتها الفردية والاجتماعية ،فلا ينبغي للإنسان أن يستغرق فيها ليعتبرها القيمة كلّ القيمة ،ولكنه يملك أن يحركها في اتجاه الله من خلال القيم الروحية والأخلاقية المنطلقة من الجذور الحقيقية للإنسان ،ليرتفع بذلك عند الله في خط طاعته ليحصل على محبته ورضوانه ،فيحصل بذلك على الدرجات العليا في مواقع القرب منه ،لأن كل حاجات الحياة تموت وتتلاشى تماماً كما يموت الجسد ،ويبقى للروح في انفتاحها الفكري والعملي على الحياة من خلال الله ،خلودها الروحي عندهتعالى{وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ} فهو المرجع الذي يرجع الناس إليه جميعاً ،فيجدون عندهإذا آمنوا واتقوا وأحسنواكل الخير والسعادة والموقع الطيب الذي يعيشون فيه حسن المآب في علوِّ في المنزلة ،والارتفاع في الدرجة ،والسموّ في سُبُحات الروح .
حدود الشهوة واللذة
إن الله يحدثنا عن الحياة وما تشتمل عليه مما تشتهيه النفوس في ما تُلحُّ عليه الغرائز وتتحفز له الأطماع ،وما تحتاجه من حاجات الحياة الدنيا ،فقد زُيّن للإنسان ذلك كله ،وتحوّل في كيانه إلى حبٍّ يأخذ عليه مشاعره وأحاسيسه ويدفعه إلى العمل الجاد في سبيل الحصول عليه ،وربما يدخل حلبة الصراع في المعارك من أجل الوصول إلى شيء منه ،فإذا تطلع الإنسان إلى الناس ،فإنه سيجدهم يتسابقون في حبّ النساء ليحصلوا على لذة الجنس ،وفي حبّ البنين ليشعروا بالقوة والامتداد لحياتهم ،وفي الرغبة بالقناطير المقنطرة التي هي كنايةٌ عن الكثرة من الذهب والفضة ،والخيل المسوّمة التي تتغذى بالرعي ،أو التي تزيّن وتعرض بأجمل صورة ،والأنعام من الإبل والغنم والبقر والزرع ،وغير ذلك من متع الدنيا وشهواتها التي قد تتبدل وتتغير حسب تغير الأوضاع والأزمان ،ولكن الحالة تبقى على ما هي عليه ،فالإنسان الآن هو الإنسان قبل آلاف السنين في حبّه لشهوات الدنيا ،وإن اختلفت أنواع الشهوات وأشكالها ووسائلها وطريقة ممارستها ،فلا يزال الناس يعيشون الحاجة إلى أمثال هذه الأمور ،من موقع الحاجة عند بعض ،ومن موقع القيمة الكبيرة عند بعض آخر .
أما النظرة الإسلامية إلى ذلك ،فهي التي تعبر عنها هذه الآية وما بعدها ،فإن هذه الأمور لا تمثل القيمة الكبيرة التي يجعل منها الإنسان هدفاً عظيماً لحياته ،بحيث تتحول إلى ما يشبه الرسالة التي يكافح من أجلها ويموت في سبيلها ،بل هي مجرد متاعٍ للحياة الدنيا لا يعني للإنسان إلا كما تعني الحاجة الطبيعية التي يمارسها ممارسة طبيعية لا تزيد عن المقدار العادي الذي يحتاجه من أجل استمرار حياته ،فيجاهد في سبيلها على أساس علاقتها بامتداد الحياة واستقرارها ونموّها الطبيعي ،بعيداً عن كل ما يجعلها هدفاً مطلوباً لذاته ،لأن الإنسان سيفارق ذلك كله إن عاجلاً أو آجلاً ،كما يفارق الحياة نفسها ...فإذا كانت الحياة الدنيا لا تمثل الهدف الأسمى في ذاتها ،فكيف بهذه المتع السريعة التي لا يمثل الإحساس بها إلاّ شعور اللحظة العابرة التي تلامس الغرائز ثم تذوب وتغيب وتتحول إلى مجرد ذكرى طيّبة ...أمَّا القيمة التي تمثل الرسالة الخالدة الممتدة التي تملأ الحياة الداخلية للإنسان بالفكر والطمأنينة ،والحياة الخارجية له بالعمل والمعاناة والجهاد ،فهي الإيمان بالله وطلب ما عنده ،فإن عنده حسن المآب ،فهناك يجد الإنسان الرضا كل الرضا ،واللذّة كل اللذة ،في ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين ،حيث المشاعر تتصل بالانفعالات الخالدة الرائعة التي لا تتجمد عند نداء اللحظة ،بل تستمر وتمتد ليفيض الإنسان بالسعادة الخالدة التي قد تلتقي مع بعض أشكال الشهوات في الدنيا ولكنها من نوع آخر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من المتع الروحية والمادية للإنسان .
إن الله لا يريد للإنسان أن يترك شهوات الحياة الدنيا فيحرم نفسه منها تماماً ،أو يرى في حرمان نفسه منها قيمةً روحيةً ذاتيةً ،بل يريد له أن يعاملها كما يعامل المتاع الذي يقضي فيه حاجته من دون أن يعطيه حجماً أكبر وقيمةً أعلى ،أمّا القيمة فهي التطلع لما عند الله الذي يتحوّل إلى عمل دائب من أجل أن يجعل الحياة كلها سائرةً على درب الله في ما يريده لها من نظام وشريعة ،وعلى هدى العقيدة الصحيحة التي تبني الحياة على قاعدة ثابتة من الإيمان بالله .وتلك هي السعادة ،كل السعادة ،أن يعيش الإنسان همَّ الرسالة من أجل الإنسان والحياة لتحقيق رضا الله في ذلك كله ،وتلك هي النفس المطمئنة الراضية المرضية التي يناديها الله للدخول في عباده وجنته ...
جدال المفسرين حول فاعل «زُيّن »
وقد أثير بين المفسرين جدل كثير حول فاعل «زيّن » ،فإنها جاءت مبنية للمجهول .فهل هو الله ،أو هو الشيطان ؟واعترض بعضٌ على أن يكون هو الله ،بأنّ ذلك يستتبع خلق الله الشرّ في نفس الإنسان ،وهو منافٍ لفكرة الحريّة التي تتناسب مع عدل الله .واعترض بعضٌ على أن يكون الشيطان هو ذلك الفاعل ،لأن الكلام في طبيعة البشر والحب الناشىء فيها ،ومثله لا يُسند إلى الشيطان بحال ،وإنما يسند إليه ما هو من قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملاً قبيحاً .ولكننا لا نرى مجالاً لهذا النزاع ،فإن الظاهر من الآية أنها واردة في ما جبلت عليه طبائع الإنسان من حيث حاجته إلى مثل هذه الأمور التي تدعوه إلى الإقبال عليها في مجال الزيادة ،تماماً كبقية الأشياء التي تحدث عنها الله في ما زيّنه للإنسان ،كما في قوله تعالى:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [ الأنعام: 108] فإن الناس مجبولون على أن يرى أيّ واحدٍ منهم العمل الصادر منه عن قناعة حسناً ،لأن ذلك هو لازم قناعته به .ولعل هذا الذي ذكر في الآية من طبيعة الجانب المادي في الإنسان الذي يستدعي الحركة نحو هذه الأمور ،وليس في ذلك أيُّ سوء يتنافى مقتضاه مع العدالة ،لأن حبّ هذه الأمور لا يفرض المعصية في ممارستها ،بل يمكن للإنسان أن يمارسها في موقع الطاعة ،كما يمكن أن يمارسها من موقع المعصية .ولهذا كانت الفكرة المقابلة لها منطلقةً من قاعدة إثارة الاهتمام باللذات التي تنتظر الإنسان في الحياة الآخرة ،لئلا يستسلم للذات الحياة الدنيا استسلاماً كلياً ،بحيث يندفع إلى الانحراف عن خط الله في سبيل الحصول عليه ،فالآية ليست واردة في مورد الرفض المطلق لهذه الشهوات ،بل هي واردة في مورد الموازنة بينها وبين شهوات الآخرة الدينية والروحية ،في مجال الحاجة إلى إقامة التفاضل فيما بينها ،والله العالم بحقائق آياته .
وقد أثار صاحب تفسير الميزان عدة ملاحظات للاستدلال على رأيه في أن فاعل «زين » هو «الشيطان » لا «الله » ،فقال: «أما أولاً فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال والأولاد واستغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه ،والأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى » .
ونلاحظ على هذا الكلام ،أنه لا ظهور للآية في هذا المعنى ،بل هيعلى الظاهرواردة في مقام المقارنة بين نعيم الحياة الدنيا مما يتصل بالحاجات الحسية للناس ،ونعيم الحياة الأخرى والتأكيد على ما تتميز به لذّات الآخرة عن لذّات الدنيا ،والحث على التقوى وطلب ما عند الله باعتبار أن ذلك هو السبيل للحصول على الجنة ونعيمها التي لا تقاس بها مواقع الشهوات في الدنيا ،ولذلك لم يذكر في هذه الآية كيف يمارس الناس هذه الشهوات في خط الانحراف .
وإذا كان العلامة الطباطبائي يعتمد على السياق باعتبار أنه وارد في الحديث عن الكفار ،فإن ذلك لا يوجب مثل هذا الظهور المدّعى ،لأن للقرآن أساليبه التي ينتقل فيها من موضوع إلى موضوع من أجل عرض الخطوط العامة في ميزان القيمة الروحية ليعرف الناس فيها موازين الأمور فيأخذوا بالأفضل منها .
ومما يؤيد ذلك أن حبّ الشهوات ليس شيئاً يختص به الكفار ،بل هو من خصائص الإنسان بجميع أصنافه في وجوده الغريزي ،فقد كان الحديث حديثاً عن الطبيعة الإنسانية المادية التي يريد الله للإنسان أن يرتفع ويسمو بها في آفاق الروح عندما يحركها في الخط المستقيم الذي أراده الله لعباده المتقين .
وقال: «وأما ثانياً ،فلأنه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى ،لكان المراد به الميل الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الأمور ،فكان الأنسب في التعبير أن يقال: زيّن للإنسان أو لبني آدم ونحوها ،كقوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [ التين:45] ،وقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [ الإسراء:70] ،الآية .وأمّا لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شيء من إلغاء الميز أو حقارة الشخص ودناءة الفكر نحو قوله:{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} وقوله:{يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [ الحجرات: 13] ،وغير ذلك » .
ونلاحظ على ذلك ،أن المسألة المطروحة هي أن التعبير بالناس لا يختص بما ذكر ،بل قد لا تكون ظاهرةً في ما ذكره من الميز والحقارة للشخص والدناءة للفكر ،لأن الكلمة لا توحي بذلك ،بل إننا نجد في القرآن حديثاً عن الحقارة للإنسان كما في الآية المتقدمة{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أو قوله تعالى:{خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [ الأنبياء:37] ،أو{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [ النساء: 28] ،أو{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيء جَدَلاً} [ الكهف: 54] .
إن الإتيان بكلمة «الناس » قد يكون بملاحظة الحديث عن الخصائص المتحركة في الإنسان ،بحيث تتوزع بين أفراده باعتبارها من الأمور الغريزية الأكثر إلحاحاً في حركة وجوده لاتصالها بأفعاله وأقواله ،بينما تنطلق حكمة «الإنسان » أو «بني آدم » من الخصائص الذاتية التي تتصل بالنوع ،مما قد لا يشمل كل الأفراد من الناحية الفعلية .وفي ضوء ذلك ،نجد أن كلمة الناس قد وردت في هذه الآية للحديث عن الطبيعة الوجودية للإنسان في حب الشهوات التي يتوزع أفراده الأخذ بها في مظهرها المتحرك الذي يسعى إليه الناس من خلال اتصالها بالنشاط الإنساني الذي لا بد فيه من الحركة الفعلية لتحقيق أهدافه النوعية في امتداد الإنسان في الحياة ،باعتبارها الحاجات الحيوية لوجوده .
وقال: «وأما ثالثاً ،فلأن الأمور التي عدّها تعالى بياناً لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري ،إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية ،ولفظ البنين بالأولاد ،ولفظ القناطير المقنطرة بالأموال ،فإن الحب الطبيعي موجود في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء ،وكذا هو مغروز في الإنسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد ومطلق الأموال دون خصوص البنين وخصوص القناطير المقنطرة ،ولذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول: إن المراد حب مطلق الزوجية ومطلق الأولاد ومطلق الأموال ،وإنما ذكرت النساء والبنين والقناطير لكونها أقوى الأفراد وأعرفها ،ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له »[ 6] .
ونلاحظ على ذلك ،أن ما ذكره لا يصلح مؤيداً لتفسيره ،أما بالنسبة إلى الحديث عن النساء بالنسبة إلى الرجال ،فقد ذكرنا الأساس في هذا النوع من التخصيص مما قدّمناه من حديث ،بالإضافة إلى أن حب الرجال للنساء ينطلق من الجانب الغريزي للآية ،كما أنّ مسألة التأثير الشيطاني في التزيين لا تختص بالرجال ،بل تشمل النساء بالنسبة إلى الرجال ،فالإشكال وارد على كلا الاحتمالين مع وجود تفسير صحيح لما ذكرناه ،وأما مسألة البنين ،فقد يراد بها الأعم على أساس التغليب ،وربما تكون الرغبة الغريزية للبنين أكثر ،كما هي الحالة النوعية لدى الناس ،وأما القناطير المقنطرة بدلاً من الأموال ،فلعل الوجه فيها أن الرغبة في المال تجتذبطبيعياًالرغبة في المال الكثير .
قال: «وأما رابعاً: فلأن كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية:{ذَلِكَ مَتَعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ} ،فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية وتوجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان والأزواج والرضوان ،ولا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة ،فإن في ذلك مناقضة ظاهرة ،وإبطالاً للأمرين معاً ،كالذي يريد الشبع ويمتنع عن الأكل .
فإن قلت: الآيةأعني قوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ} إلخبحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [ الأعراف:32] ،ولازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضاً هو الله سبحانه .
قلت: بين الآيتين فرق من حيث المقام ،فإن المقام في ما نحن فيه ،مقام ذمّ هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها وإلهائها الناس عما لهم عند الله ،وحثّهم على الإعراض عنها والتوجه إلى ما عند الله سبحانه ،بخلاف تلك الآية ،فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان ،وأنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا وبالاختصاص في الآخرة ،ولذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد وعدت هذه الزينة رزقاً طيباً .
وإن قلت: إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات ،ومن المعلوم أن تزيين الحب للإنسان وجذبه لنفسه وجلبه لقلبه ،أمر طبيعي وخاصة ذاتية له ،فيؤول معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثراً في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم ،ولا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه ،فهو الفاعل في قوله: زين .
قلت: لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه ويصدهم عن غيره ،فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم إلى غيره ليجلب الإنسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه ،كما أن المرأة تتزين بضم أمور تستصحب الحسن والجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها ،فالمقصود هو بالحقيقة تلك الأمور والمنتفع من هذا القصد هي المرأة ،وبالجملة ،فيؤول معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدّي إلى التولّه فيه والولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [ مريم: 59] » .
ونلاحظ على ذلك ،أن سياق الآيةكما ذكرناههو الحديث عن ضرورة عدم الاستغراق في هذه الشهوات واعتباره قيمة نهائية وغاية للحياة ،لأنها لا تزيد عن كونها حاجة ومتاعاً لا دوام لها والالتفات إلى الحياة الآخرة باعتبارها هي الغاية ،الأمر الذي يجعل الإنسان ينظر إلى متع الدنيا لا كأمر لذاته ،وإنما كأمر يتوسل به معاشه وحاجاته المتنوعة ولذلك فهي ليست واردة مورد الرفض لها والصرف عنها ،بل في مورد التنبيه على ما في الآخرة من متع تتجاوز هذه المتع الفانية إلى المتع الخالدة ،ليعرف الإنسان كيف يحرك خطواته في الطريق إلى الآخرة من خلال ما يملكه في الدنيا .
إن الآية تتجه إلى بيان شهوات الدنيا التي خلقها الله في الإنسان من خلال خصوصيته الغريزية ،مقارنةً بما عند الله من حيث كون ما في الدنيا فانياً محدوداً في إيجابياته التي تحمل في داخلها السلبيات بطريقةٍ وبأخرى .أمّا الآخرة ،فإن ما فيها خالد في امتداده ،إيجابي في معطياته من دون سلبيات ،الأمر الذي يريد الله فيه للإنسان أن تكون اهتماماته أخروية لا دنيوية ،ليحصل على النتيجة العليا دون النتيجة السفلى ،من دون تعرّض لمسألة الواقع السلوكي للإنسان أمام هذه الشهوات من حيث كونها خيراً أو شراً .ومن خلال ذلك نفهم أن قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [ الأعراف: 32] متفق مع مضمون الآية في نسبة الزينة إلى الله ،باعتبار أنه أخرجها لعباده ،تماماً كما هو تزيين الله للناس حب الشهوات ،لأنه هو الذي أثارها في وجودهم ،مع كون السياق مختلفاً من حيث انطلاقة تلك الآية لرفض فكرة حرمتها ،بينما كانت هذه الآية في سياق اعتبارها حالةً طبيعيةً من حالات الإنسان الذي يراد له أن يحركها في اتجاه الآخرة لا أن يسقط أمامها في أجواء الاستغراق في الدنيا ،ولا دلالة في الآية على ما ذكره من أن المراد «بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجتذب الناس إلى نفسه ويصدهم عن غيره » ،فإن هذا ليس ظاهراً من الآية ،بل هو مستفاد من خلال الوجه الذي فسّر به الآية ،مما لا نجد للآية دلالة عليه ،والله العالم .