قوله تعالى: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ) .
يستفاد من بناء الفعل الماضي في الآية ( زين ) للمجهول أن الإنسان مزيّن له تزيينا أن يحب هاتيك الشهوات مما ذكر ،وبذلك فالتزيين خارج عن إرادة الإنسان .وإنما الإنسان قد جيء به مفطورا على هذه الحال من إركاز الغرائز الفطرية والأهواء الذاتية كحب النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ،فلا جرم أن المزين للإنسان حب الشهوات من لذائذ وأهواء ومنافع هو الله ،مع أنه قيل في المزين خلاف ذلك ،لكننا نرجح أن المزين هنا هو الله .ذلك أن ما ذكر في الآية من وجوه الشهوات المختلفة ليس عارضا ولا مكتسبا ،بل إنه إحساسات فطرية مركوزة في أعماق الطبيعة البشرية لا يملك حيالها غير الاعتبار والمراعاة .
إن ما ذكرته الآية من لذائذ ورغائب ،إن هي الاستعدادات ذاتية أصيلة ضاربة في أغوار النفس البشرية ،بل إنها جملة من المركبات الذاتية لطبيعة الإنسان .فهي ليست مصنوعة ولا مستفادة على سبيل الاكتساب ،وإنما هي ذخائر فطرية بني عليها الإنسان قدرت في كيانه تقديرا .
إذا تبين لنا ذلك لزم أن نقول إن هذه الغرائز والشهوات لا ينبغي أن تثير في النفسي الاستهجان أو الغضاضة ،فهذه الإحساسات ليست مستقبحة ولا نشازا ولا هي مثار للاستخفاف أو الازدراء ،بل إن عكس ذلك هو الصحيح ،فإن هذه المركبات الفطرية المستحوذة على كيان الإنسان جديرة بالمراعاة والاهتمام ؛لأنها من خلق الله ومن تقديره .فهي جملة من المركبات النفسية والعضوية الذاتية للإنسان ،بل الإنسان كله حصيلة متوازنة متماسكة متكاملة لهاتيك المركبات العديدة المنسجمة ،فلا جرم أن مثل هذا التخليق من صنع الله وتقديره .
وإذا كان الأمر كذلك بات من الضرورة الاستفادة من مثل هذا التركيب المتماسك المتوازن المنسجم الذين جاء عليه الإنسان ؛وذلك من أجل الإصلاح والخير وبناء المجتمع البشري على أحسن حال من الترابط والانسجام والرحمة ،شريطة أن تأخذ هذه الغرائز والشهوات والرغائب مجراها السليم المعتدل .وذلك في إطار معقول ومقبول من التوازن والاعتدال ،بعيدا عن الإفراط والتفريط .وكلا هذين العنصرين ( الإفراط والتفريط ) مدعاة محققة وخطيرة للتدهور والانهيار ،بل إنهما مدعاة شنيعة لإعنات الإنسان بما يفضي به إلى الفساد والتدمير .
وقد كرت الآية جملة من الشهوات المحببة للإنسان والتي زينها الله للإنسان تزيينا لا يملك التنصل منه كليا ،ويأتي في طليعة هذه الشهوات والرغائب اللاحاحة حب النساء ،ويعبر عن ذلك بغريزة الجنس .وهي غريزة راسخة ومركوزة في النفسية البشرية ،يستحيل إنكارها أو التحرر من غلبتها وسلطانها إلا الكبت المرهق الشنيع .الكبت الذي يسوم الأعصاب والجهاز النفسي كله الإرهاق والعنت والاضطراب .
هذه حقيقة مقدرة ومحسوبة ،حقيقة قد راعاها الإسلام وحسب لها من التشريع ما يكافؤها من الاهتمام والحرص والرعاية ،وذلك بتشريع النكاح .هذا العقد المبارك المقدس الذي يصون للأزواج طبائعهم ونفوسهم ؛كما تظل مرتاحة مطمئنة لا يعتورها خلل ،ولا قلق ولا إرهاق ،ويصون للأسر والبيوت حسن العيش في ود ومرحمة من غير شقاق ولا نزاع ولا فوضى ،ويصون للمجتمع كله أمنه واستقراره فيظل شامخ البنيان مستديم الصيانة والصلابة والائتلاف .
وكذلك حب الشهوة من ( البنين ) وواحده ابن ،والإنسان مفطور على حب الذرية والنسل ،لا جرم أن هؤلاء أقرب الخليقة إلى قلب الآباء والأمهات وهم الأصول ؛لأن الولد فرع الأصل ،بل هو بضعة منه وجزء أساسي أصيل منبثق عن كيانه وبذلك فإن الآباء والأمهات لشدّ ما يكون حبهم وتعلقهم بأولادهم عظينا وغامرا .
على أن البنين خاصة تزداد الرغبة لدى الأصول في إنجابهم لإحساسهم المستكن أن ذريتهم من البنين والحفدة هم خير معوان لهم في رحلة العمر هائلة .
وكذلك حب الشهوة من ( القناطر المقنطرة من الذهب والفضة ) يراد بالقناطر المقنطرة – في الجملة- المال الكثير يتوثق به الإنسان في دفع أصناف النوائب .وهو قول الرازي .
أما الذهب والفضة فهما معيار الثمنية للأشياء كلها .قال الرازي في ذلك: الذهب والفضة إنما كانا محبوبين ؛لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء ،وصفة المالكية هي القدرة ،والقدرة صفة الكمال ،والكمال محبوب لذاته .فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب ،لا جرم كانا محبوبين{[413]} .
وحب الإنسان للمال حقيقة لا شك فيها .حقيقة تعترف بها الوقائع والاستقراءات المحسوسة التي تشهد على تشبث الإنسان المشبوب بالمال ،إن حب المال يكاد يستحوذ كليا على قلب الإنسان وأعصابه وتفكيره إلا أن يستعصم بأهذاب العقيدة والتقوى ليتحرر من طوق هذه الشهوة الغلابة الجامحة .
وليت شعري هل ينجو من أسر هذه الشهوة الطاغية المستحوذة إلا القليل القليل من بني البشر .أولئك الذين استعلت طبائعهم وكراماتهم على المال بكل صوره وأصنافه ما بين ذهب ونقود مختلفة الأنواع والأشكال .نقود مرصودة في صنادق السحت والشنار داخل المصارف الربوية .
وكذلك حب الشهوة من ( الخيل المسومة ) الخيل اسم جمع ليس له واحد من لفظه ،واحده فرس كالقوم والرهط والنساء والإبل ونحو ذلك .والخيل مؤنثة ،وسميت خيلا لاختيالها وهو إعجابها بنفسها مرحا .ومنه يقال: اختال الرجل .وبه خيلاء وهو الكبر والإعجاب{[414]} .والمسومة بمعنى الراعية .يقال: أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي .وقيل: الراعية المطهمة الحسان{[415]} وهذه صنف من المال محبب للنفس ومرغوب في اقتنائه ،تحصيلا لاشتهاء النفس لمثل هذا المتاع .وهو واحد من زخارف الدنيا يجد فيها الرجال حظهم من المفاخرة والتلذذ بالمرح والاختيال .
وكذلك حب الشهوة من ( الأنعام والحرث ) الأنعام جمع ومفرده نعم بالفتح ،وهي الإبل والبقر والغنم ،ولا يقال للجنس الواحد منها: نعم ،إلا للإبل خاصة فإنها فلبت عليها .والحرث معناه الزرع .والمراد به في الآية اسم لكل ما يحرث وهو مصدر سمي به .نقول: حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة{[416]} .
وهذان صنفان من المال تهوي إليهما النفوس ؛لما فيهما من استدرار للخير المستفاد من الأنعام من حيث لحومها وألبانها وأشعارها وجلودها وغير ذلك من وجوه المنافع الحيوانية .وكذلك الحرث حيث الأرض وما يستفيض فيها من خيرات ومذخورات وكنوز ،ما بين زروع وثمار ومياه ومعادن ونحو ذلك من أصناف المنافع .كل أولئك مجتمع في العبارة القرآنية الوجيزة المعبرة ( والأنعام والحرث ) .
وفي جملة هذه الأصناف من ضروب المتاع الزائل قال القرطبي: قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال ،كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس ،أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار ،وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك ،وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي ،وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق{[417]} .
قوله: ( ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) الإشارة هنا إلى ما ذكر في الآية من وجوه المنافع والزينة وغير ذلك من أصناف المباهج والخيرات الزائلة مما يؤول إلى الزوال والفناء لا محالة .إن ذلك كله ( متاع الحياة الدنيا ) والمتاع معناه المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من الحوائج{[418]} .لكن ما عند الله خير وأدوم وأبقى ( والله عنده حسن المآب ) أي المرجع والنعيم المقيم المستديم .ما من متاع في هذه الدنيا إلا ومصيره الزوال القريب ،وما يكاد المرء يمارس استمتاعه بمنافع هذه الحياة- على اختلاف هذه المنافع وتفاوتها حتى يجد نفسه قد فرغ منها في عجل من حيث يدري أو لا يدري ،وما تمر الأيام أو السنون حتى تنطوي بالمرء صفحات العمر وهو يظن أنه على شيء ،ثم تفجأه صرعة الموت الداهم ليستيقن- في حقيقة لا ريب فيها- أنه فارق كل متاع وأنه لم يجن من دنياه ومآله وتطلعاته غير الندامة والإياس المطبق .وهناك الخسران والثبور !.