قوله تعالى: ( قل أؤنبكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ) الهمزة الأولى في قوله: ( أؤنبئكم ) تفيد الاستفهام ،والمعنى هل أنبئكم بخير من ذلكم ؟أي مما ذكر من وجوه المتاع والزينة في هذه الحياة الصائرة إلى الزوال .والجواب ( للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) الجنات جمع ومفرده الجنة .وهي في لغة العرب تعني البستان{[419]} .وذلك الذي يستطيع الحس البشري أن يتصوره عن معنى البستان حيث الأشجار الكثيفة بأغصانها وأوراقها وجذوعها وثمارها وظلالها ،لكن ذلك يظل في مقياس هذه الدنيا قاصرا وهينا ومحدودا .بل إنه غاية في الهوان والبساطة بقدر ما تقوم عليه الحياة كلها من محقرات وصغائر أجل إن الجنة في مفهومها الدنيوي وفي حس الإنسان وتصوره ليست غير لعقة من زبد مهين .زبد يمر ويتبدد بلا حساب .أو ينقشع انقشاع السراب من على سطح القفار والمفاوز .
قال ابن كثير في بيان الجنات التي تجري من تحتها الأنهار: أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء .وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
قوله: ( خالدين فيها ) أي ماكثين فيها أبدا الآباد من غير خروج منها ولا تحول عنها .
قوله: ( وأزواج مطهرة ورضوان من الله ) هذه واحدة من خير النعم التي يتمتع بها المؤمنون في الجنة ،لا جرم أن خير النعم التي يحظى بها المؤمن في حياته هي الزوجة الصالحة ،وفي هذا المعنى من لطائف الزوجة الصالحة يقول الرازي: إن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن .ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب فقال: ( مطهرة ) ويدخل في ذلك: الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع ،ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة ،ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة{[420]} .
قوله: ( ورضوان من الله ) الرضوان بكسر الراء وضمها أي رضا الله وهو مصدر والرضاء اسم{[421]} والرضوان هو أعلى منازل الكرامة لأهل الجنة ،بل إن الرضوان من الله يكتبه لعباده المؤمنين الجنة لا جرم أنه خير ما عرفته الكائنات من لذائذ وطيبات ،وخير ما حفل به هذا الكون المديد من مباهج وخيرات حسان .
جاء في ظلال القرآن قوله في هذا الصدد: ثم هنالك ما هو أكبر من كل متاع .هنالك ( رضوان من الله ) رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما .ويرجح ... رضوان بكل ما في لفظه من نداوة وبكل ما في ظله من حنان{[422]} .
نسأل الله جلت قدرته أن يمن علينا بفيض من رضوانه الكريم الغامر وأن يحشرنا في زمرة الأتقياء الأوفياء .
قوله: ( والله بصير بالعباد ) أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسيء عدلا .وفي جملة ذلك وعد ووعيد ،فهو وعد من الله لعباده المؤمنين المخلصين بإحلالهم الدرجات من التكريم والنعيم .ووعيد منه للفاسقين والجاحدين والعصاة بإركاسهم في الأذلين ليبوؤوا بسخط الله وعذابه{[423]} .