{ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} .
( القراءات ) للعرب في مثل همزتي"أؤنبئكم "أي ما كانت أولاهما مفتوحة والثانية مضمونة أربع لغات ، قرئ بها القرآن بإذن الله على لسان رسوله تسهيلا عليهم هنا ، وفي قوله تعالى:{ أأنزل} في سورة"ص "وقوله:{ أألقي} في سورة القمر وليس في القرآن سواها:
( إحداها ) تحقيق الهمزتين من غير مد بينهما وعليه القراء الكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر وهشام في رواية عنه في السور الثلاث .
( الثانية ):تحقيق الهمزتين مع المد بينهما وهي رواية عن هشام في السور الثلاث .
( الثالثة ):تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع المد بينهماوالتسهيل قراءة الهمزة بين نفسها وبين حرف حركتها ، وهو أن تجعل هنا بين الهمزة والواوويعبر بعضهم عن المد بإدخال ألف بين الهمزتين ، والمعنى واحد ، وهي قراءة قالون .
( الرابعة ):تحقيق الأولى وتسهيل الثانية من غير مد ، وهي قراءة ورش وابن كثير .
وهناك قراءة مركبة من لغتين وهي المد وعدمه مع التسهيل ، وهي قراءة أبي عمرو .وعن هشام تفريق بين ما هنا وما في القمر و"ص "وهو أنه المد هنا مع التحقيق والقصر هناك معه .
وفي قوله تعالى:{ رضوان} لغتان ضم الراء وهي قراءة عاصم فيما عدا قوله تعالى:{ إلا من اتبع رضوانه} وكسرها وهي قراءة الباقين في جميع القرآن .
قوله تعالى:{ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} الآية بيان وتفصيل لقوله تعالى{ والله عنده حسن المآب} .وبدأه بالاستفهام لأجل توجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه والتنبئة بالشيء التخبير به كالإنباء بمعنى الإخبار وقال في الكليات"النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم ".وعلى هذا يكون التعبير بمادة النبأ تشويقا آخر .وقوله"ذلكم "إشارة إلى ما تقدم ذكره من النساء والبنين وسائر الشهوات المذكورة في الآية السابقة .وكون ما سيأتي في جواب الاستفهام خيرا من تلك الشهوات يشعر بأن تلك خير في نفسها أو ليست بشر .والصواب أنها خير ومن أجل نعم الله تعالى على الناس وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعمه تعالى على الناس في أنفسهم ، كحواسهم وعقولهم وفي غيرها حتى في الشريعة .فالذي يسرف في حب النساء حتى يعطي امرأة ولدها حق غيرهما أو يمهل لأجلها تربية ولده من غيرها أو يترك حق الله وطاعته تقربا إليها أو يعتدي في ذلك بأن يحب امرأة غيره ، هو كمن يستعمل عقله في استنباط الحيل لهضم حقوق الناس وإيذائهم ، أو يحتال في نصوص الشريعة ويؤولها حتى يفوت الغرض من الأحكام وتترك الفرائض وتهدم الأركان فسوء سلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أن النعم شر في ذاتها ولا كون حبها شرا مع القصد والوقوف عند حدود الشريعة والفطرة في ذلك .
أما الجواب عن الاستفهام فهو قوله:{ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله} جعل ما أعده للمتقين من الجزاء على التقوى نوعين:نوعا جسمانيا وهو الجنات وما فيها من الخيرات ، والأزواج المطهرات مما يعهد في نساء الدنيا من الشوائب ، ونوعا روحانيا عقليا وهو رضوان الله تعالى .وقد تقدم تفسير التقوى والجنات والأزواج المطهرة في سورة البقرة ولا يخفى ما في إضافة لفظ رب إلى ضمير المتقين من الإشعار بفضلهم وعناية من رباهم بعنايته وتوفيقه بشأنهم .وأما الرضوان فهو مصدر بمعنى الرضا مع ما في زيادة المبنى من المبالغة في المعنى ، فكأنه قال ورضوان عظيم من الله لا يشوبه ولا يعقبه سخط وفي سورة التوبة:{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر .ذلك هو الفوز العظيم} [ التوبة:72] وفي هذا من تفضيل الرضوان على نعيم الجنات وما فيها ما لا غاية وراءه ، وفي سورة الحديد:{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار{[302]} نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما .وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ورضوان ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [ الحديد:2] وهذه الآية أوجز من الآية التي نفسرها على أنها في موضوعها ، وفيها من زيادة الفائدة بيان جزاء المسرفين والمعتدين في هذه الشهوات الدنيوية الذين تشغلهم عن حقوق الله وتحملهم على هضم حقوق خلقه ، وجزاء المقتصدين الذين يتقون الله في تمتعهم ولا ينسون الله ولا الدار الآخرة .ولعلنا إذا أمهل الزمان وبلغنا سورة الحديد نبين ما في الآية .
وقال الأستاذ الإمام في تفسير الرضوان في الآية:وأكبر من هذه اللذات كلها رضوان الله تعالى ، وهذا يدلنا على أن أهل الجنة طبقات ومراتب كما نراهم في الدنيا فمن الناس من لا يفهم معنى رضوان الله تعالى ولا يكون باعثا له على ترك الشر ولا على فعل الخير ، وإنما يفهمون معنى اللذات الحسية التي جربوها فكانت أحسن الأشياء موقعا من نفوسهم ، فهم فيها يرغبون ولأجلها يعملون ، ولكن جميع المتقين يعرفون في الآخرة هذه اللذة التي لم يكونوا يعقلون لها معنى في الدنيا .
{ والله بصير بالعباد} قال الأستاذ الإمام رحمه الله:ختم الآية بهذه الجملة للإشعار بأنه ليس كل من ادعى التقوى في نفسه أو بلسانه يكون متقيا .وإنما المتقي عند الله هو من يعلم منه التقوى ، وفي هذا تنبيه للناس وإيقاظ لمحاسبة نفوسهم على التقوى لئلا يغشهم العجب بأنفسهم فيحسبوها متقية وما هي بمتقية .