{ والذين يقولون ربنا إننا آمنا} قال الأستاذ الإمام:وصف أهل التقوى بشأن من شؤونهم ، وهو أنهم لتأثر قلوبهم بالتقوى التي هي ثمرة الإيمان تفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان في مقام الابتهال والدعاء .وهذا اختيار منه للقول بأن الكلام وصف للذين اتقوا ، ولا يضره الفصل بين الصفة والموصوف وإن كان طويلا لظهور المراد وعدم الالتباس .ويجوز أن يكون مراده الوصف في المعنى لا في عرف النحاة وهو يصدق على قول بعضهم:إن الكلام مدح أو استئناف بياني ، كأنه قيل:من أولئك المتقون الذين لهم هذا الجزاء الحسن ؟ فقيل هم الذين يقولون إلخ .
وقالوا في قوله تعالى:{ فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار} أنهم رتبوا طلب المغفرة والوقاية من النار على الإيمان فدل ذلك على أن الإيمان وحده غير كاف في استحقاقهما من غير توقف على العمل الصالح .وأقول قد يصح هذا إذا أريد مغفرة الشرك السابق على الإيمان وما تبعه من الذنوب والوقاية من الخلود في النار بذلك .فإن الإسلام يجب ما قبله{[303]} كما ورد .ولا يمكن أن يصح إذا أريد به أن الإنسان قد يكون مؤمنا ولا يعمل صالحا بل يكون منغمسا في المعاصي والخطايا ثم يكون مستحقا للمغفرة والوقاية من العذاب .فإن العقل والنقل يحيلان هذا الفرض .ذلك أن المعروف من سنة الله تعالى في الإنسان أن عقائده الراسخة اليقينية لها السلطان الأعلى على أعماله البدنية .وما الإيمان إلا الاعتقاد اليقيني الراسخ في العقل المهيمن على القلب .ولا عمل إلا عن فكر من العقل أو وجدان من القلب ، فأعمال المؤمن يجب أن تكون تابعة لإيمانه لا تستبد دونه ولا تتحول على طاعته إلا لنسيان أو جهالة ، كغلبة انفعال يعرض ولا يلبث أن يزول وتقفي التوبة على أثره فتمحوه:{ إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [ النساء:17] فهذا دليل العقل .
وأما النقل فالآيات التي يعسر إحصاؤها ومنها في المغفرة قوله تعالى:{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [ طه:82] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين:{ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [ غافر:8] إلى قوله:{ وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ رحمته} [ غافر:9] والفرق بين وعده بالمغفرة وبين حكايته دعاء المستغفرين لا يحتاج إلى بيان ، على أن الآية التي نفسرها لا تعارض هذه الآيات وما في معناها بل تؤيدها لأن الدعاء فيها لم يرد به أن كل متق ينطق به نطقا بلسانه وإنما هو بيان لشأن المتقين الموصوفين بما يأتي في الآية التالية من أكمل صفات المؤمنين .على أنه لو لم يكن الكلام في المؤمنين المتقين ولو لم يوصفوا بعد الدعاء بما يأتي من الصفات بأن قيل:للذين آمنوا عند ربهم إلخ الدعاء فقط .لكان لنا أن نقول:إن المراد بالإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وعمل الصالحات لتتفق الآية مع سائر آيات القرآن الموافقة للعقل والعلم بطبيعة البشر والإجماع والسلف على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل .ولكن القوم غفلوا عن هذا وحجبوا عنه بالتماس ما يؤيدون به مذاهبهم ويفندون به من خالفها .وقد قررنا هذه الحقيقة في الإيمان والعمل من قبل ولا نزال نبدئ القول فيها ونعيده لعل التكرار في المقامات المختلفة يؤثر في صخرة التقليد الصماء فيفتتها أو ينسفها نسفا ، فيعود المسلمون إلى إيمان القرآن الذي كان عليه السلف وصفوة علماء الخلف ، كحجة الإسلام الغزالي في المشرق وشيخ الإسلام ابن تيمية في الوسط والعلامة الشاطبي صاحب الموافقات في المغربكل هؤلاء من القرون الوسطى وحسبك بالأستاذ الإمام من المتأخرين .