وبعد أن ساق - سبحانه - هذه الأدلة المتنوعة على كمال قدرته وعلى صحة البعث . . .
التفت - سبحانه - بالحديث إلى أولئك الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين . . . فرد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ونعت القرآن بنعوت جليلة فقال - تعالى -:( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ . . . ) .
قال بعض العلماء:ورد القسم على هذا النحو فى القرآن الكريم كثيرا ، ومن ذلك قوله - تعالى -:( فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق والليل وَمَا وَسَقَ ) وقوله:( فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس الجوار الكنس . . ) وقد جاء على غير هذه الصورة ، أى:من غير لا النافية ، ومن غير الفعل "أقسم "كما فى قوله - تعالى -:( فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ . . ) ( وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ . . ) وتارة يكون القسم بأشياء مختلفة من خلقه - تعالى - كالصافات ، والطور ، والتين ، والقرآن . والفاء فى قوله - تعالى -:( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم ) للتفريع على ما تقدم من أدلة البعث .
و ( لاَ ) عند أكثر المفسرين فى هذا التركيب وأمثاله:مزيدة للتأكيد ، كما فى قوله - تعالى -:( لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب . . ) أى ليعلم أهل الكتاب . والمعنى هنا:فأقسم بمواقع النجوم . . .
قالوا:وزيادتها هنا جاءت جريا على سنن العرب من زيادتها قبل القسم ، كما قى قولهم:لا وأبيك ، كأنهم ينفون ما سوى المقسم عليه ، فيفيد الكلام التأكيد .
ويرى بعضهم أن ( لاَ ) هنا:للنفى فيكون المعنى:فلا أقسم بمواقع النجوم ، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أصلا فضلا عن هذا القسم العظيم .
قال الآلوسى ما ملخصه:( فَلاَ أُقْسِمُ . . . ) لا مزيدة للتأكيد مثلها فى قوله - تعالى -:( لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ) أو هى لام القسم - بعينها - أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف أى:فلأقسم .
وقيل إن لا هنا للنفى والرد على ما يقوله الكفار فى القرآن من أنه سحر ، كأنه قيل:فلا صحة لما يقولون فيه ، ثم استؤنف فقيل أقسم . .
وقال بعضهم إن "لا "كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح ، كما فى قوله لا وأليك . .
وقال أبو مسلم وجمع:إن الكلام على ظاهره المتبادر منه . والمعنى:لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم . أى:لا يحتاج إلى قسم أصلا ، فضلا عن هذا القسم العظيم .
والمواقع:جمع موقع ، وموقع الشىء ما يوجد فيه ، وما يسقط من مكان مرتفع .
فالمراد بمواقع النجوم:مساقطها التى تسقط فيها عند غروبها . . . وقيل:مواضعها من بروجها فى السماء ، ومنازلها منها . . وقيل:المراد مواقعها يوم القيامة عدما تنتشر وتتفرق . . وأقسم - سبحانه - بذلك ، للتنويه بشأنها ، ولما فيها من الدلالة على أن لهذا الكون خالقا قادرا حكيمان يسير كواكبه بدقة ونظام بديع ، لا اختلال معه ولا اضطراب . . إذ كل نجم من هذه النجوم المتناثرة فى الفضاء ، له مجاله الذى يغيب فيه ، وله مكانة الذى لا يصطدم فيه بغيره .
قال بعض العلماء:إن هذه النجوم والكواكب ، التى تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن ريته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحسن به الأجهزة ، دون أن تراه كلها تسبح فى الفلك الغامض ، ولا يوجد أى احتمال أن يقترب مجال مغناطيسى لنجم ، من مجال نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر .
. .
ومن العلماء من يرى أن المراد بمواقع النجوم أوقات نزول القرآن نجما نجما ، وطائفة من الآيات تلى طائفة أخرى . .
قال ابن كثير:واختلفوا فى معنى قوله "بمواقع النجوم "فعن ابن عباس أنه يعنى نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر ، من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا بعد ذلك . . .
وعن قتادة:"مواقع النجوم "منازلها . . وقال مجاهد:مطالعها ومشارقها . . . وعن الحسن:انتشارها يوم القيامة . .
ويبدو لنا أن تفسير النجوم هنا ، بنجوم السماء هو الأرجح ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .