التّفسير
المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن:
استمرارا للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة ،والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلّة السبعة الخاصّة بالمعاد ،ينتقل الحديث الآن عن أهميّة القرآن الكريم باعتباره يشكّل مع موضوع النبوّة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية ،فبالإضافة إلى أنّ للقرآن الكريم أبحاثاً عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد ،فإنّه يعتبر تحكيماً لهذين الأصلين .
يبدأ الحديث بقسم عظيم ،حيث يقول سبحانه: ( فلا اُقسم بمواقع النجوم ) .
يعتقد الكثير من المفسّرين أن ( لا ) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث إنّها زائدة وللتأكيد ،كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الأخرى حول القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة وربّ المشارق والمغارب والشفق ،وما إلى ذلك .
في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أنّ ( لا ) هنا جاءت للنفي ،حيث قالوا: إنّ المطلب ( مورد القسم ) أهمّ من أن يقسم به ،كما نقول في تعبيراتنا اليوميّة: نحن لا نقسم بالموضوع الفلاني ،أي نفي القسم وأنّ ( لا ) هنا جاءت إشارة لذلك .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ،لأنّه قد ورد في القرآن الكريم القسم بالله صراحة ،فهل أنّ النجوم أفضل من الذات الإلهيّة حتّى لا يقسم بها ؟
وحول ( مواقع النجوم ) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لها:
الأوّل: هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها .
والآخر: هو أنّ المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها .
والثّالث: هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة .
وفسّرها آخرون: بأنّ معناه هو غروب النجوم فقط .
واعتبرها آخرون إشارة وانسجاما مع قسم من الرّوايات حول نزول آيات وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة ،وذلك لأنّ «النجوم » جمع نجمة تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجيّة .
وبالرغم من أنّ المعاني لا تتنافى حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه ،إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ،وذلك لأنّ أكثر الناس كانوا لا يعلمون أهميّة هذا القسم عند نزول الآيات ،بعكس الحالة اليوم ،والتي توضّح لنا أنّ لكلّ نجمة من النجوم مكانها المخصّص ومدارها ومسارها المحدّد لها بدقّة وحساب ،وذلك طبقاً لقانون الجاذبية ،وإنّ سرعة السير لكلّ منها محدّدة أيضاً وفق قانون معيّن وثابت .
وهذه المسألة بالرغم من أنّها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام السماوية البعيدة ،إلاّ أنّ المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكّل النجوم القريبة لنا ،قد درست بدقّة وتبيّن أنّ نظام مداراتها دقيق إلى حدّ مدهش .
وعندما يلاحظ الإنسانطبقاً لتصريحات العلماءأنّ في ( مجرّتنا ) فقط ألف مليون نجمة ،وتوجد في الكون مجرّات كثيرة ،وكلّ واحدة منها لها مسار خاصّ ،عندئذ ستتوضّح لنا أهميّة هذا القسم القرآني .
ونقرأ في كتاب ( الله والعلم الحديث ) ما يلي:
«يعتقد العلماء الفلكيون أنّ هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات ،والتي نرى قسماً منها بالعين المجرّدة ،والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلاّ بالتلسكوبات بل إنّ قسماً منها لا نستطيع مشاهدته حتّى بالتلسكوبات ،اللهمّ إلاّ بوسائل خاصّة نستطيع أن نصوّرها بها .
كلّ من هذه النجوم تدور في مدارها الخاصّ ،ولا يوجد أي احتمال أنّ واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة أخرى .أو أنّ بعضها يصطدم بالبعض الآخر ،وفي الواقع أنّ حالة التصادم المفترضة مثل ما لو فترضنا أنّ سفينة في المحيط الهادئ تصطدم مع سفينة أخرى تجري في البحر الأبيض المتوسّط وكلّ منها سائرة بموازاة الأخرى وبسرعة واحدة ...إنّ هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو بعيد جدّاً .كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أنّ كلا منها لها مدارها الخاصّ بها ولن تصطدم بالأخرى رغم السرعة الهائلة لكلّ منها »{[5035]} .
/خ82