قال الفخر الرازي عند تفسيره لقوله- تعالى- وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا....
المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير. خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة، بعث خفاف الكناني- وكان صديقا لأبى جهل- بهدايا إليه مع ابن له، فلما أتاه قال:إن أبى ينعمك صباحا ويقول لك:إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معى من قرابتي فعلت.
فقال أبو جهل:قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا. إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا بالله طاقة. وإن كنا إنما نقاتل الناس، فو الله إن بنا على الناس لقوة.
والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف فيها القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم. وحتى تسمع العرب- بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد-.
قال المفسرون:فوردوا بدرا، وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان .
وقوله بَطَراً مصدر بطر- كفرح- ومعناه كما يقول الراغب:دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة، وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها.
أى أن البطر ضرب من التكبر والغرور واتخاذ نعم الله- تعالى- وسيلة إلى مالا يرضيه وهو مفعول لأجله، أو حال، أى:حال كونهم بطرين.
وقوله وَرِئاءَ مصدر رأى ومعناه:القول أو الفعل الذي لا يقصد معه الإخلاص، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء.
والمعنى:كونوا أيها المؤمنون- ثابتين عند لقاء الأعداء، ومكثرين من ذكر الله وطاعته، وصابرين في كل المواطن.. واحذروا أن تتشبهوا بأولئك المشركين الذين خرجوا من مكة بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ أى خرجوا غرورا وفخرا وتظاهرا بالشجاعة والحمية ... حتى ينالوا الثناء منهم..
وقوله:وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ معطوف على بَطَراً والسبيل:الطريق الذي فيه سهولة. والمراد بسبيل الله:دينه. لأنه يوصل الناس إلى الخير والفلاح.
أى:خرجوا بطريق بما أوتوا من نعم ومرائين بها الناس، وصادين إياهم عن دين الإسلام الذي باتباعه يصلون إلى السعادة والنجاح.
وعبر عن بطرهم وريائهم بصيغة الاسم الدال على التمكن والثبوت، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث، للإشعار بأنهم كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والرياء، وأن هذه الصفات دأبهم وديدنهم، أما الصد عن سبيل الله فلم يحصل منهم إلا بعد أن دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام.
وقوله:وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تذييل قصد به التحذير من الاتصاف بهذه الصفات الذميمة، لأنه- سبحانه- محيط بكل صغيرة وكبيرة وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فعلى المؤمنين أن يخلصوا لله- تعالى- أعمالهم.