وإن ذلك الصبر يكون بإخلاص النية لله تعالى ، وألا تكون الحرب بطرا ورئاء الناس ، بل تكون لله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك حظر الله تعالى من الحرب بطرا ورئاء الناس فقال تعالت كلماته .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
إن الإيمان قوة الجهاد ، وإخلاص النية لله تعالى هي خشيته ، والمؤمنون كانوا يجاهدون طالبين مرضاة الله ومحبته ، وكانوا يصبرون ويصابرون ، وقد حثهم الله على طاعته ورسوله ، وأن يمتنعوا عن النزاع ، وقد جنبهم أن يكونوا كالمشركين الذين يحاربون مفاخرين ، قد بطروا معيشتهم ، ولا يهمهم إلا المراءاة بالقتال ، والصد عن سبيل الله ؛ ولذا قال تعالى:{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ} البطر كفر النعمة والتقوية بها على معاصي الله ، والاستعلاء بها على الناس ، والرئاء مصدر راءى يرائي ، يقصد به الظهور أمام الناس مفاخرا مباهيا ، لا يقصد به رفع حق ولا خفض باطل ، ولا إغاثة ملهوف ، ولا نصرة مظلوم ، بل يقصد الغلب لمجرد الغلب ، وقد خرجوا من ديارهم لهذا الغرض وهو البطر ورئاء الناس ؛ ولذا قالوا:إن بطرا ورئاء الناس مفعولان لأجله ، أي العلة الباعثة للخروج من ديارهم هي البطر والمفاخرة والاستعلاء على الناس ، وإذا كان لهم غرض آخر يظهر من أعمالهم ، فهو الصد عن سبيل الله تعالى باستعلائهم ، وإرهاب الناس وبيان أن لهم القوة في بلاد العرب ، فيرهبهم المؤمن ويخافهم من يريد الإيمان ، وبذلك يصدون الناس ويدفعونهم عن سبيل الله تعالى ، وهو الصراط المستقيم ، وسبيل الحق .
ومعنى النهي عن مشابهتهم بهؤلاء في قوله تعالى:{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أن يخرجوا من المدينة لأجل الحق ونصرته ، لا للبطر والاستعلاء والمفاخرة .
ولقد كان المشركون قد خرجوا لذلك ، أو انتهى الأمر في خروجهم في بدر إلى تمحض لذلك ، لقد خرجوا ليحموا عيرهم ، ولكن أبا سفيان انفلت بالعير عن طريق بدر ، وعبر بها سيف البحر ، وقد أرسل إليهم بنجاة العير ، وكان حقا عليهم أن يعودوا أدراجهم إذ قد نجت عيرهم ، وسلمت أموالهم ، فذهب الباعث على خروجهم ، وعاد بنوا زهرة منهم ، وتلكأ الباقون من عقلائهم ، وترددوا وأرادوا حقن الدماء ، وقالوا:نقاتل أبناء عمومتنا من غير حاجة إلى قتال ؟ ! وغلب رأي السفهاء منهم ، ووقف ( أبو الحكم ) الذي سمى في التاريخ الإسلامي ( أبا جهل ) وقال:( والله لا نرجع عن قتال محمد ، حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور ، وتعزف علينا القيان ، فإن بدرا موسم من مواسم العرب ، وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بمخرجنا ، فتهاهبنا آخر الأبد ) ، وقد انساقت قريش وراء هذا الناعب ، فكانت المعركة ولم يشربوا الخمر ، بل ذاقوا كأس المنون ، وكان الحمام بدل المدام ، وناحت عليهم النواحي بدل غناء القيان .
ونرى أنهم ما اضطروا إلى الحرب ، بل بطر النقمة ، والاستعلاء بالقوة والصد عن سبيل الله ، وأن يكون الشرك هو الغالب ، مع أن الله تعالى هو القاهر .
وقد بين الله قدرته وأنه هو القاهر فوقهم ، فقال تعالى في ختام الآية الكريمة ،{ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وصدر الجملة السامية بلفظ الجلالة لبيان قدرة الله العالية وتربية المهابة في نفوسهم ، وقدم{ بما يعملون} لبيان اختصاصه سبحانه بالعلم بما يعمله وإحاطته ، والجملة السامية تهديد لهم ، لأن هذا العلم الجزاء الوفاق لعملهم .