جملة:{ ولا تكونوا} معطوفة على{ ولا تنازعوا}[ الأنفال: 46] عطف نهي على نهي .
ويصحّ أن تكون معطوفة على جملة{ فاثبتوا}[ الأنفال: 45] عطف نهي على أمر ،إكمالاً لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء ،بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر ،وأن يتجنّبوا ما يفسد إخلاصهم في الجهاد .
وجِيء في نهيهم عن البطَر والرئَاء بطريقة النهي عن التشبّه بالمشركين إدماجاً للتشنيع بالمشركين وأحوالِهم ،وتَكريهاً للمسلمين تلكَ الأحوالَ ،لأنّ الأحوال الذميمة تتّضح مذمتها ،وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين عند آخرين ،وذلك أبلغ في النهي ،وأكشف لقبْح المنهي عنه .ونظيره قوله تعالى:{ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون}[ الأنفال: 21] وقد تقدّم آنفاً .فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبَدْر إذْ خرجوا بطَراً ورئاء الناس ،لأنّ حقّ كلّ مسلم أن يريد بكلّ قول وعمل وجه الله ،والجهاد من أعظم الأعمال الدينية .
والموصول مراد به جماعة خاصّة ،وهم أبو جهل وأصحابه ،وقد مضى خبر خروجهم إلى بدر ،فإنّهم خرجوا من مكة بقصد حماية غيرهم فلمّا بلغوا الجحفة جاءهم رسول أبي سفيان ،وهو كبير العير يخبرهم أنّ العِير قد سلمت ،فقال أبو جهل: « لا نرجع حتّى نَقدمَ بدراً نَشْرب بها وتعزف علينا القيان ونطعِم من حضَرَنا من العرب حتّى يتسامع العرب بأنّنا غلبنا محمداً وأصحابه » .فعبّر عن تجاوزهم الجحفة إلى بدر ،بالخروج لأنّه تكملة لخروجهم من مكة .
وانتصب{ بطراً ورئاء الناس} على الحالية ،أي بَطِرينَ مرائين ،ووصفهم بالمصدر للمبالغة في تمكّن الصفتين منهم لأنّ البطَر والريَاء خلقان من خلقهم .
و« البطر » إعجاب المرء بما هو فيه من نعمة ،والاستكبار والفخر بها ،فالمشركون لمّا خرجوا من الجحفة ،خرجوا عُجباً بما هم فيه من القوة والجِدّة .
« والرئاء » بهمزتين أولاهما أصيلة والأخيرة مبدلة عن الياء لوقوعها متطرفة أثر ألف زائدة .ووزنه فِعَال مصدر رَاءَىَ فَاعَلَ من الرؤية ويقال: مرَاآة ،وصيغة المفاعلة فيه مبالغة ،أي بالغ في إراءة الناس عمله محبَّة أن يروه ليفخر عليهم .
و{ سبيل الله} الطريق الموصلة إليه ،وهو الإسلام ،شبّه الدين في إبلاغه إلى رضى الله تعالى ،بالسبيل الموصّل إلى بيت سَيِّد الحي ليصفح عن وارده أو يكرمه .
وجيء في{ يصدون} بصيغة الفعل المضارع للدلالة على حدوثِ وتجدّد صدّهم الناسَ عن سبيل الله ،وأنّهم حين خرجوا صادّين عن سبيل الله ومكرّرين ذلك ومجدّدينه .وباعتبار الحدوث كانت الحال مقارنة ،وأمّا التجدّد فمستفاد من المضارعية ولا يَجعل الحال مقدَّرة .
وقوله:{ والله بما يعملون محيط} تذكير للمسلمين بصريحه ،ووعيد للمشركين بالمعنى الكنائي ،لأنّ إحاطة العلم بما يعملون مجاز في عدم خفاء شيء من عملهم عن علم الله تعالى ،ويلزمه أنّه مجازيهم عن عملهم بما يجازي به العليمُ القدير مَن اعتدى على حُرمه ،والجملة حال من ضمير{ الذين خرجوا}[ الأنفال: 47] .
وإسناد الإحاطة إلى اسم الله تعالى مجاز عقلي ،لأنّ المحيط هو علم الله تعالى فَإسناد الإحاطة إلى صاحب العلم مجاز .