أسباب النزول | المصدر |
---|---|
* سَبَبُ النُّزُولِ: 1 - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: مُرَّ على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيهودي مُحمَّماً مجلوداً. فدعاهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟) قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم. فقالأنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟) قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه). فأمر به فرجم. فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إلى قولهإِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ). يقول: ائتوا محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. فأنزل الله تعالىوَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) في الكفار كلها. 2 - أخرج أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: إن الله - عَزَّ وجلَّ - أنزلوَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) قال ابن عبَّاسٍ: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة، فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلةُ من العزيزة فديته مئة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وذَلَّت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ لم يظهر، ولم يوطئهما عليه، وهو في الصلح، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا إلينا بمائة وَسْقِ، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنا إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفَرَقاً منكم، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك. فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا، وقهراً لهم، فَدُسُّوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه: إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم، فلم تحكموه. فدسوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما جاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا) إلى قولهوَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ثم قال: فيهما والله نزلت، وإياهما عنى الله - عَزَّ وَجَلَّ -. زاد أبو داود والنَّسَائِي ثم نزلتأَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .. ) الآية. 3 - أخرج الترمذي عن زرارة بن أوفى يحدث عن عمران بن حصين أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقاليعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك) فأنزل اللهوَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:هكذا جاء في سبب نزول الآيات الكريمات. وقد أورد جمهور المفسرين السببين الأول والثاني وأعرضوا عن الثالث فلم يذكروه.فأما السبب الأول في حكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجم الزاني فقد تتابع على القول به جمهور المفسرين:قال الطبري في ذلك كلامًا كثيراً، خلاصتهأن اليهود إنما سألوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك ليعلموا، فإن لم يكن من حكمه الرجم رضوا به حكماً فيهم وإن كان من حكمه الرجم حذروه وتركوا الرضا به وبحكمه) اهـ.وقال البغوي بعد أن ساق حديث الرجم وأتبعه بقصة قريظة والنضيروالأول أصح لأن الآية في الرجم) اهـ. وقال ابن العربيفى سبب نزولها فيه ثلاثة أقوال: إلى أن قال: الثالث: أنها نزلت في اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إن رجلاً منا وامرأةً زنيا فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فذكر الحديث بطوله ثم فند القولين الأولين إلى أن قال: والصحيح ما رواه الجماعة عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله كلاهما في وصف القصة أن اليهود جاؤوا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحكموه فكان ما ذكرنا في الأمر) اهـ. وقال ابن عطية بعد أن ساق الأسباب المرويةوهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتمرسهم بالدين) اهـ. - ومراده أن سببها قضية الزنى والرجم لأن التحريف وقع فيها -.وقال القرطبيوقيل إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم وهذا أصح الأقوال) اهـ.وقال ابن كثيروالصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا) اهـ.وقال الشنقيطياعلم أولاً أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة فتعمدوا تحريف كتاب الله) اهـ.وقال ابن عاشوروسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه ما محصّله: أن اليهود اختلفوا في حد الزاني حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فدك) اهـ.فحجة من تقدم من العلماء على مذهبهم الأحاديث الواردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآثار السلف من الصحابة والتابعين الدالة على هذا. وأما السبب الثاني: فقد تقدم أن جمهور المفسرين قد أوردوه، واقتصروا على ذلك إلا ابن العربي، وابن كثير، فالأول قد ضعفه وستأتي حجته، والثاني ألمح إلى تقويته فقال بعد سياق السببينوقد يكون اجتمع السببان في وقت واحد فنزلت هذه الآيات في ذلك كله والله أعلم ولهذا قال بعد ذلكوَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى آخرها وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص والله سبحانه وتعالى أعلم) اهـ.وبعد نقل كلام العلماء المتقدم وما احتجوا به على أقوالهم أقول: أما حديث عمران بن حصين في قصة الرجل الذي عض يد أخيه فلا تصح أن تكون سبباً لنزول الآية الكريمة للأسباب التالية: 1 - أن ذكر نزول الآية شاذ غير محفوظ وتبين تفصيل ذلك في دراسة الإسناد. 2 - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك. أقول: إذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفى حقه في الدية فكيف يكون له قصاص ثم يقال فأنزل اللهوَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). مع أن شأن القصاص أكبر من الدية، والله قال في نفس الآية (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) فيمنعه من الدية ويأذن له بالقصاص حسب دلالة هذا السبب، هذا من التناقض، وصدق الله القائلأَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82). 3 - أن المفسرين أعرضوا عنه فلم يذكروه في موضعه مما يدل على عدم حجيته عندهم. 4 - أن الشنقيطي ذكر أن الآية نزلت في شأن اليهود بالإجماع، وإذا كانت كذلك فكيف يقال إنها نزلت في شأن رجلين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟أما السبب الثاني وهو أن الآية نزلت في شأن بني قريظة والنضير فالحق أنها تتفق مع السياق القرآني فقولهمفدُسُّوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يُعطكم حذرتم فلم تحكموه) يوافق قوله تعالى: - (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) وقوله تعالىيَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) لا يخالف قوله في الحديث فدسوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنافق هو الذي يؤمن بفيه دون قلبه لكن يعكر على هذا أن إسناد الحديث دائر بين الضعف والضعف الشديد، وأيضاً هو معارَض بحديث البراء الثابت في الصحيح.وابن العربي ذكر علة ثالثة وهي أن بني قريظة اشتكت، والشكوى شيء غير التحكيم المنصوص عليه في سياق الآيات. قال ابن العربيوأما من قال: إنها نزلت في شأن قريظة والنضير وما شكوه من التفضيل بينهم فضعيف لأن الله تعالى أخبر أنه كان تحكيماً منهم للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا شكوى) اهـ.وعندي أن ما ذكره ليس بوجيه فقد جاء في الحديث: ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم. فهذا تحكيم لكن الحديث معلول بما تقدم.وأما قول ابن كثيرإن قولهوَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .. ) يقوي أن سبب النزول قضية القصاص) فلا ريب أن هذا حق لو كان إسناد الحديث صحيحاً. وحينئذ لا يبقى لدينا إلا حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في سبب نزول الآيات الكريمات، وقد اجتمع فيه أمور: 1 - صحة إسناده إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2 - موافقته للسياق القرآني. 3 - اتفاق المفسرين على اختياره والقول بمقتضاه. 4 - تصريحه بنزول الآيات الكريمة بسبب تلك القصة. وهذا ما لم يذكر في حديثي عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - اللذَين ذكرهما ابن العربي في قضية زنى اليهوديين ورجمهما. * النتيجة: أن سبب نزول هذه الآيات حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في زنى اليهوديين، وحكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهما بالرجم لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق الآيات، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.' | لباب النقول |