قوله تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } ، قيل هو على التقديم والتأخير ، أي : نحيا ونموت من غير رجوع .
وقيل : نموت ويحيا أولادنا ، كما يقال : ما مات من خلف ابناً مثل فلان .
وقوله : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } فإنه حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمرعن قتادة في قوله : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } قال : " قال ذلك مشركو قريش ، قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر ، يقولون : إلا العمر " .
قال أبو بكر : هذا قول زنادقة قريش الذين كانوا ينكرون الصانع الحكيم وأن الزمان ومُضيَّ الأوقات هو الذي يحدث هذه الحوادث .
والدهر اسم يقع على زمان العمر كما قال قتادة ، يقال : فلان يصوم الدهر ، يعنون عمره كله ؛ ولذلك قال أصحابنا : إن من حلف لا يكلم فلاناً الدهر أنه على عمره كله ؛ وكان ذلك عندهم بمنزلة قوله : " والله لا أكلمك الأبد " ، وأما قوله : " لا أكلمك دهراً " فإن ذلك عند أبي يوسف ومحمد على ستة أشهر ، ولم يعرف أبو حنيفة معنى دهراً فلم يُجِبْ فيه بشيء .
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في بعض ألفاظه : " لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فإِنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ " ، فتأوّله أهل العلم على أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون الحوادث المُجْحِفَة والبلايا النازلة والمصائب المتلفة إلى الدهر ، فيقولون فعل الدهر بنا وصنع بنا ، ويسبّون الدهر كما قد جرت عادة كثير من الناس بأن يقولوا : أساء بنا الدهر ، ونحو ذلك ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبُّوا فاعل هذه الأمور فإن الله هو فاعِلُها ومُحْدِثها .
وأصل هذا الحديث ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن الصباح قال : حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يَقُولُ الله تَعالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنا الدَّهْرَ بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهار " ، قال ابن السرح : عن ابن المسيب مكان سعيد ؛ فقوله : " وأنا الدَّهْرَ " منصوب بأنه ظرف للفعل ، كقوله تعالى : أنا أبداً بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار ، وكقول القائل : أنا اليوم بيدي الأمر أفعل كذا وكذا ؛ ولو كان مرفوعاً كان الدهر اسماً لله تعالى وليس كذلك ؛ لأن أحداً من المسلمين لا يسمّي الله بهذا الاسم . وحدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِنَّ الله يَقُول : لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ ، فإِنِّي أنا الدَّهْر أُقَلِّبَ لَيْلَهُ ونَهَارَهُ فإذا شِئْتُ قَبَضْتُهُما " . فهذان هما أصل الحديث في ذلك ، والمعنى ما ذكرنا ؛ وإنما غلط بعض الرواة فنقل المعنى عنده فقال : لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر ، وأما قوله في الحديث الأول : " يُؤْذِينِي ابنُ آدم يسبُّ الدّهْر " فإن الله تعالى لا يلحقه الأذَى ولا المنافع والمضارّ ، وإنما هو مجازٌ معناه : يؤذي أوليائي ، لأنهم يعلمون أن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي ينسبها الجهَّال إلى الدهر ، فيتأذّون بذلك كما يتأذَون بسماع سائر ضروب الجهل والكفر ، وهو كقوله : { إن الذين يؤذون الله ورسوله } ، ومعناه : يؤذون أولياء الله .