باب أخذ الجزية من أهل الكتاب
قال الله عز وجل : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولا باليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع إظهارهم الإيمان بالنشور والبعث ؛ وذلك يحتمل وجوهاً ، أحدها : أن يكون مراده لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي يجري حكم الله فيه من تخليد أهل الكتاب في النار وتخليد المؤمنين في الجنة ، فلما كانوا غير مؤمنين بذلك أطلق القول فيهم بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ومراده حكم يوم الآخر وقضاؤه فيه ، كما تقوله : أهل الكتاب غير مؤمنين بالنبي ، والمراد بنبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقيل فيه إنه أطلق ذلك فيهم على طريق الذمّ لأنهم بمنزلة من لا يقربه في عظم الجرم ، كما أنهم بمنزلة المشركين في عبادة الله تعالى بكفرهم الذي اعتقدوه . وقيل أيضاً : لما كان إقرارهم عن غير معرفة لم يكن ذلك إيماناً وأكثرهم بهذه الصفة . وقوله تعالى : { وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ } فإن دين الحق هو الإسلام ، وقال الله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وهو التسليم لأمر الله وما جاءت به رسله والانقياد له والعمل به . والدين ينصرف على وجوه : منها الطاعة ، ومنها القهر ، ومنها الجزاء ؛ قال الأعشى :
* هُوَ دَانَ الرَّبَابَ اذْكَرِهُوَا الدِّي * ن دِرَاكاً بغَزْوَةٍ وصِيَالِ *
يعني : قَهَرَ الرباب إذ كرهوا طاعته وأبوا الانقياد له . وقوله تعالى : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] قيل إنه يوم الجزاء ، ومنه : كما تدين تُدان .
مطلب : في تفسير دين الحق
ودين اليهود والنصارى غير دين الحق ؛ لأنهم غير منقادين لأمر الله ولا طائعين له لجحودهم نبوَّة نبينا صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : فهم يدينون بدين التوراة والإنجيل ويعترفون به منقادين له . قيل له : في التوراة والإنجيل ذِكْرُ نبينا وأمْرُنا بالإيمان واتّباع شرائعه ، وهم غير عاملين بذلك بل تاركون له ، فهم غير متبعين دين الحق . وأيضاً فإن شريعة التوراة والإنجيل قد نُسخت والعملُ بها بعد النسخ ضلالٌ فليس هو إذاً دين الحق . وأيضاً فهم قد غيّروا المعاني وحرَّفوها عن مواضعها وأزالوها إلى ما تهواه أنفسهم دون ما أوجبته عليهم كتب الله تعالى ، فهم غير دائنين دين الحق .
مطلب : أهل الكتاب هم اليهود والنصارى
قوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ } ، فإن أهل الكتاب من الكفار هم اليهود والنصارى لقوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } [ الأنعام : 156 ] ، فلو كان المجوس أو غيرهم من أهل الشرك من أهل الكتاب لكانوا ثلاثَ طوائف ، وقد اقتضت الآية أن أهل الكتاب طائفتان ؛ وقد بيّناه فيما سلف .
مطلب : في الصابئين وفي بعض فرق النصارى
وتقدم الكلام أيضاً في حكم الصابئين وهل هم أهل الكتاب أم لا ؛ وهم فريقان : أحدهما بنواحي كَسْكَرَ والبطائح ، وهم فيما بلغنا صِنْفٌ من النصارى وإن كانوا مخالفين لهم في كثير من دياناتهم ؛ لأن النصارى فرق كثيرة منهم المرقونية والآريوسية والمارونية ، والفرق الثلاث من النسطورية والملكية واليعقوبية يبرؤون منهم ويحرمونهم ، وهم ينتمون إلى يحيى بن زكريا وشيث وينتحلون كتباً يزعُمُون أنها كتب الله التي أنزلها على شِيثَ بن آدم ويحيى بن زكريا ، والنصارى تسميهم يوحنَّاسِيَّة ؛ فهذه الفرقة يجعلها أبو حنيفة رحمه الله من أهل الكتاب ويبيح أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم . وفرقة أخرى قد تسمَّتْ بالصابئين ، وهم الحرَّانيون الذين بناحية حَرَّانَ ، وهم عَبَدَةُ الأوثان ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئاً من كتب الله ، فهؤلاء ليسوا أهل الكتاب . ولا خلاف أن هذه النحلة لا تُؤكل ذبائحهم ولا تُنكح نساؤهم ، فمذهب أبي حنيفة في جعله الصابئين من أهل الكتاب محمول على مراده الفرقة الأولى . وأما أبو يوسف ومحمد فقالا : " إن الصابئين ليسوا أهل الكتاب " ولم يفصلوا بين الفريقين . وقد رُوي في ذلك اختلافٌ بين التابعين . وروى هشيم أخبرنا مطرف قال : كنا عند الحكم بن عيينة ، فحدّثه رجل عن الحسن البصري أنه كان يقول في الصابئين : هم بمنزلة المجوس ، فقال الحسن : أليس قد كنت أخبرتكم بذلك ؟ وروى عباد بن العوام عن الحجّاج عن القاسم بن أبي بزّة عن مجاهد قال : " الصابئون قوم من المشركين بين اليهود والنصارى ليس لهم كتاب " ، وكذلك قول الأوزاعي ومالك بن أنس . وروى يزيد بن هارون عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد أنه سئل عن الصابئين : أمن أهل الكتاب هم وطعامهم ونساؤهم حلّ للمسلمين ؟ فقال : نعم . وأما المجوس فليسوا أهل كتاب ، بدلالة الآية ولما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " وفي ذلك دلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب .
وقد اختلف أهل العلم فيمن تؤخذ منهم الجزية من الكفار بعد اتفاقهم على جواز إقرار اليهود والنصارى بالجزية ، فقال أصحابنا : " لا يُقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وتُقبل من أهل الكتاب من العرب ومن سائر كفار العجم الجزية " . وذكر ابن القاسم عن مالك : " أنه تقبل من الجميع الجزية إلا من مشركي العرب " وقال مالك في الزنج ونحوهم : " إذا سُبُوا يُجبرون على الإسلام " . ورُوي عن مجاهد أنه قال : " يقاتَلُ أهلُ الكتاب على الجزية وأهل الأوثان على الصلاة " ، ويحتمل أن يريد به أهل الأوثان من العرب . وقال الثوري : " العرب لا يُسْبَوْن وهوازن سُبُوا ثم تركهم النبي صلى الله عليه وسلم " . وقال الشافعي : " لا تُقبل الجزية إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } يقتضي قَتْلَ سائر المشركين ، فمن الناس من يقول : إن عمومه مقصور على عبدة الأوثان دون أهل الكتاب والمجوس ؛ لأن الله تعالى قد فرق في اللفظ بين المشركين وبين أهل الكتاب والمجوس بقوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ] فعطف بالمشركين على هذه الأصناف ، فدلّ ذلك على أن إطلاق هذا اللفظ يختص بعَبَدَةِ الأوثان وإن كان الجميع من النصارى والمجوس والصابئين مشركين ؛ وذلك لأن النصارى قد أشركت بعبادة الله عبادةَ المسيح والمجوسُ مشركون من حيث جعلوا لله ندّاً مغالباً ، والصابئون فريقان ، أحدهما عبدة الأوثان والآخر لا يعبدون الأوثان ولكنهم مشركون في وجوه أخر ، إلا أن إطلاق لفظ المشرك يتناول عَبَدَةَ الأوثان ، فلم يوجب قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ } إلاّ قتل عبدة الأوثان دون غيرهم . وقال آخرون : لما كان معنى الشرك موجوداً في مقالات هذه الفرق من النصارى والمجوس والصابئين قد انتظمهم اللفظ ، ولولا ورود آية التخصيص في أهل الكتاب خُصُّوا من الجملة ومن عداهم محمولون على حكم الآية عرباً كانوا أو عجماً .
ولم يختلفوا في جواز إقرار المجوس بالجزية ، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار ، ورَوَى سفيان بن عيينة عن عمرو أنه سمع مجالداً يقول : " لم يكن عمر بن الخطاب يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هَجَرَ " . وروى مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ، فقال عبدالرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " . وروى يحيى بن آدم عن المسعودي عن قتادة عن أبي مجلز قال : " كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر أنه من استقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن أحبَّ ذلك من المجوس فهو آمِنٌ ومن أبَى فعليه الجزية " . وروى قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس البحرين يدعوهم إلى الإسلام ، فمن أسلم منهم قُبل منه ، ومن أبَى ضُربت عليه الجزية ، ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة " . وروى الطحاوي عن بكار بن قتيبة قال : حدثنا عبدالرحمن بن عمران : حدثنا عوف قال : " كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة : أما بعد فاسأل الحسن ما منع مَنْ قِبَلِنَا من الأئمة أن يَحُولُوا بين المجوس وبين ما يجمعون من النساء اللاتي لا يجمعهن أحد غيرهم ؟ فسأله ، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من مجوس البحرين الجزية وأقرّهم على مجوسيتهم وعَامِلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ على البحرين العلاء بن الحضرمي ، وفعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان " . وروى معمر عن الزهري : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الأوثان على الجزية إلا من كان منهم من العرب " . وروى الزهري عن سعيد بن المسيب : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هَجَرَ ، وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس السواد ، وأن عثمان أخذها من بَرْبَرَ " .
وفي هذه الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس ، وفي بعضها أنه أخذها من عَبَدَةِ الأوثان من غير العرب ، ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في جواز أخذ الجزية من المجوس ؛ وقد نقلت الأمة أخْذَ عمر بن الخطاب الجزية من مجوس السواد ، فمن الناس من يقول إنما أخذها لأن المجوس أهل كتاب ويحتجُّ في ذلك بما روى سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن نصر بن عاصم عن عليّ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان أخذوا الجزية من المجوس ، وقال عليّ : " أنا أعلم الناس بهم كانوا أهل كتاب يقرؤونه وأهل علم يدرسونه فنزع ذلك من صدورهم " ، وقد ذكرنا فيما تقدم من الدلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب من جهة الكتاب والسنة . وأما ما رُوي عن عليّ في ذلك أنهم كانوا أهل كتاب ، فإنه إن صحت الرواية فإن المراد أن أسلافهم كانوا أهل كتاب لإخباره بأن ذلك نُزِعَ من صدورهم ، فإذاً ليسوا أهل كتاب في هذا الكتاب . ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب ما رُوي في حديث الحسن بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مجوس البحرين : " إِنَّ مَنْ أَبَى مِنْهُمُ الإِسْلاَمَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الجِزْيَةُ ولا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ولا تُنْكَحُ لَهُمُ امْرَأَةٌ " ، ولو كانوا أهل كتاب لجاز أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم ؛ لأن الله تعالى قد أباح ذلك من أهل الكتاب . ولما ثبت أخْذُ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس وليسوا أهل كتاب ثبت جواز أخْذِها من سائر الكفار أهل كتاب كانوا أو غير أهل كتاب إلا عبدة الأوثان من العرب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وبقوله تعالى : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ، وهذا في عبدة الأوثان من العرب . ويدل على جواز أخْذ الجزية من سائر المشركين سوى مشركي العرب حديثُ علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سَرِيَّةً قال : " إِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله فإِنْ أَبَوْا فادْعُوهُمْ إِلى إِعْطَاءِ الجِزْيَةِ " ، وذلك عامّ في سائر المشركين ، وخصصنا منهم مشركي العرب بالآية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم .
باب حكم نصارى بني تغلب
قال الله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ } ونصارى بني تغلب منهم لأنهم ينتحلون نِحْلَتَهُمْ وإن لم يكونوا متمسكين بجميع شرائعهم ، وقال الله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [ المائدة : 51 ] فجعل الله تعالى من يتولَّى قوماً منهم في حكمهم ؛ ولذلك قال ابن عباس في نصارى بني تغلب : إنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم لقوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [ المائدة : 51 ] ، وذلك حين قال علي رضي الله عنه : إنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر ، قال ابن عباس ذلك . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين جاءه فقال له : " أَمَا تَقُولُ إِلا أَنْ يُقَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ الله ؟ " فقال : إن لي ديناً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ أَلَسْتَ رَكُوسِيّاً ؟ " قال : نعم ، قال : " أَلَسْتَ تَأْخُذُ المِرْبَاعَ ؟ " قال : نعم ، قال : " فإنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ لَكَ في دِينِكَ " فنسبه إلى صنف من النصارى مع إخباره بأنه غير متمسك به بأخذه المرباع ، وهو ربع الغنيمة ، والغنيمة غير مباحة في دين النصارى ، فثبت بذلك أن انتحال بني تغلب لدين النصارى يوجب أن يكون حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ وأن يكونوا أهل كتاب ، وإذا كانوا من أهل الكتاب وجب أخذ الجزية منهم .
والجزية والجزاء واحد ، وهو أخْذُ المال منهم عقوبةً وجزاءً على إقامتهم على الكفر ، ولم يذكر في الآية لها مقداراً معلوماً ، ومهما أخذ منهم على هذا الوجه فإن اسم الجزية يتناوله . وقد وردت أخبار متواترة عن أئمة السلف في تضعيف الصدقة في أموالهم على ما يؤخذ من المسلمين ، وهو قول أهل العراق وأبى حنيفة وأصحابه والثوري ، وهو قول الشافعي . وقال مالك في النصراني إذا أعتقه المسلم : " فلا جزية عليه ، ولو جُعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضرَّ به ولم ينفعه شيئاً " ، ولا يحفظ عن مالك في بني تغلب شيئاً . وروى يحيى بن آدم قال : حدثنا عبدالسلام عن أبي إسحاق الشيباني عن السفاح عن داود بن كردوس عن عمارة بن النعمان أنه قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين إن بني تَغْلِبَ قد عَلمْتَ شوكتهم وأنهم بإزاء العدو ، فإن ظاهروا عليك العدوَّ اشتدت مُؤْنتهم ؛ فإن رأيت أن تعطيهم شيئاً فافعل ! فصالحهم على أن لا يغمسوا أولادهم في النصرانية وتُضاعف عليهم الصدقة ؛ قال : وكان عمارة يقول : قد فعلوا فلا عهد لهم . وهذا خبر مستفيض عند أهل الكوفة قد وردت به الرواية والنقل الشائع عملاً ، وهو مثل أخْذِ الجزية من أهل السواد على الطبقات الثلاث ووضع الخراج على الأرضين ونحوها من العقود التي عقدها على كافة الأمّة فلم يختلفوا في نفاذها وجوازها . وقد رُوي عن علي أنه قال : " لئن بقيتُ لنصارى بني تغلب لأقتلنَّ المقاتِلَةَ ولأسْبِيَنَّ الذرية ، وذلك أني كتبت الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يُنَصِّرُوا أولادهم " ولم يخالف عليّاً في ذلك أحد من الصحابة ، فانعقد به إجماعهم وثبت به اتفاقهم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَعْتَقِدُ عَلَيْهِمْ أَوَّلُهُمْ " ، ومعناه والله أعلم جواز عقود أئمة العدل على الأمة .
فإن قيل : أمر الله بأخذ الجزية منهم فلا يجوز لنا الاقتصار بهم على أخْذِ الصدقة منهم وإعفاؤهم من الجزية . قيل له : الجزية ليس لها مقدار معلوم فيما يقتضيه ظاهر لفظها وإنما هي جزاء وعقوبة على إقامتهم على الكفر ، والجزاءُ لا يختصّ بمقدار دون غيره ولا بنوع من المال دون ما سواه ، والمأخوذُ من بني تغلب هو عندنا جزية ليست بصدقة وتُوضَعُ مواضع الفيء ؛ لأنه لا صدقة لهم ، إذ كان سبيل الصدقة وقوعها على وجه القربة ولا قربة لهم ، وقد قال بنو تغلب : نؤدِّي الصدقة مضاعَفَةً ولا نقبل أداء الجزية ، فقال عمر : هو عندنا جزيةٌ وسموها أنتم ما شئتم . فأخبر عمر أنها جزية وإن كانت حقّاً مأخوذاً من مواشيهم وزرعهم .
فإن قيل : لو كانت جزية لما أخذت من نسائهم لأن النساء لا جزية عليهن . قيل له : يجوز أخْذُ الجزية من النساء على وجه الصلح ، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بعض أمرائه على بعض بلدان اليمن أن يأخذ من كل حالم أو حالمة ديناراً أو عِدْلَهُ من المعافر . وقال أصحابنا : توخذ من موالي بني تغلب إذْ كانوا كفاراً الجزية ولا تضاعف عليهم الحقوق وفي أموالهم ؛ لأن عمر إنما صالح بني تغلب على ذلك ولم يذكر فيه الموالي ، فمواليهم باقون على حكم سائر أهل الذمة في أخذ جزية الرؤوس منهم على الطبقات المعلومة ، وليس بواجب أن يكونوا في حكم مواليهم كما أن المسلم إذا أعتق عبداً نصرانيّاً لا يكون في حكم مولاه في باب سقوط الجزية عنه .
فإن قيل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَوَالي القَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ " . قيل له : مراده أنه منهم في الانتساب إليهم ، نحو مولى بني هاشم يسمى هاشميّاً ومولى بني تميم تميميّاً ، وفي النصرة والعقل كما يعقل عنه ذوو الأنساب ، فهذا معنى قوله : " مَوَالِي القَوْمِ مِنْهُمْ " ولا دلالة فيه على أن حكمه حكمهم في إيجاب الجزية وسقوطها . وأما شرط عمر عليهم أن لا يغمسوا أولادهم في النصرانية فإنه قد رُوي في بعض الأخبار أنه شرط أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية إذا أرادوا الإسلام ، فإنما شرط عليهم بذلك أنه ليس لهم أن يمنعوا أولادهم الإسلام إذا أرادوه .
مطلب : في محاورة الرشيد مع محمد بن الحسن
وقد حدثنا مكرم بن أحمد بن مكرم قال : حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال : سمعت أبا عبيد يقول : كنا مع محمد بن الحسن إذْ أقبل الرشيد ، فقام الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقم ، وكان الحسن بن زياد معتلَّ القلب على محمد بن الحسن ، فقام ودخل ودخل الناس من أصحاب الخليفة ، فأمهل الرشيد يسيراً ثم خرج الإذنُ ، فقام محمد بن الحسن فجزع أصحابه له ، فأُدخل فأُمهل ثم خرج طيب النفس مسروراً ، قال : قال لي : ما لك لم تقم مع الناس ؟ قال : كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها ، إنك أهّلتني للعلم فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة منه ، وإن ابن عمك صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمِيلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَاماً فَلْيَتَبَوَّأُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " وإنه إنما أراد بذلك العلماء ، فمن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هيبة للعدو ومن قعد اتّباعاً للسنة التي عنكم أُخذت فهو زَيْنٌ لكم ، قال : صدقت يا محمد ! ثم شاورني فقال : إن عمر بن الخطاب صَالَحَ بني تغلب على أن لا ينصروا أولادهم وقد نصروا أبناءهم وحلّت بذلك دماؤهم ، فما ترى ؟ قال : قلت : إن عمر أمرهم بذلك وقد نصروا أولادهم بعد عمر واحتمل ذلك عثمان وابن عمك وكان من العلم بما لا خفاء به عليك وجرت بذلك السنن ، فهذا صلح من الخلفاء بعده ولا شيء بلحقك في ذلك ، وقد كشفتُ لك العلم ورأيك أعْلَى ، قال : لا ، ولكنّا نجريه على ما أَجْرَوْهُ إن شاء الله ، إن الله جل اسمه أمر نبيه بالمشورة تمام المايه التي جعلها الله له ، فكان يشاور في أمره فيأتيه جبريل بتوفيق الله ، ولكن عليك بالدعاء لمن ولاّه الله أمرك ومُرْ أصحابك بذلك ، وقد أمرتُ لك بشيء تفرقه على أصحابك . قال : فخرج له مال كثير ففرقه .
قال أبو بكر : فهذا الذي ذكره محمد في إقرار الخلفاء بني تغلب على ما هم عليه من صَبْغِهم أولادهم في النصرانية حجة في تَرْكِهِمْ على ما هم عليه وأنهم بمنزلة سائر النصارى ، فلا تخلو مصالحة عمر إياهم أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية من أحد معنيين : إما أن يكون مراده أن لا يُكْرِهُوهم على الكفر إذا أرادوا الإسلام ، أو أن لا ينشؤوهم على الكفر من صِغْرهم ، فإن أراد الأول فإنه لم يثبت أنهم منعوا أحداً من أولادهم التابعين من الإسلام وأكرهوهم على الكفر فيصيروا به ناقضين للعهد وخالعين للذمة ، وإن كان المراد الوجه الثاني فإن عليّاً وعثمان لم يعترضوا عليهم ولم يقتلوهم . وأما قول مالك في العبد النصراني إذا أعتقه المسلم أنه لا جزية عليه ، فتَرْكٌ لظاهر الآية بغير دلالة ، إذْ لا فرق بين من أعتقه مسلم وبين سائر الكفار الذين لم يعتقوا . وأما قوله : " لو جُعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضَرَّ به ولم ينفعه شيئاً " فليس كذلك ؛ لأنه في حال الرقّ إنما لم تلزمه الجزية لأن ماله لمولاه ، والموْلى المسلم لا يجوز أخذ الجزية منه ، والجزية إنما تؤخذ من مال الكفار عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر ، والعبد لا مال له فتؤخذ منه ، فإذا عتق وملك المال وجبت الجزية ، وأخْذُنا الجزية منه لم يسلبه منافع العتق في جواز التصرف على نفسه وزوال ملك المولى وأمره عنه وتمليكه سائر أمواله ، وإنما الجزية جزء يسير من ماله قد حقن بها دمه فمنفعة العتق حاصلة له .
باب من تؤخذ منه الجزية
قال الله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا باليَوْمِ الآخِرِ ولاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } إلى قوله : { حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ، فكان معقولاً من فَحْوَى الآية ومضمونها أن الجزية مأخوذة ممن كان منهم من أهل القتال لاستحالة الخطاب بالأمر بقتال من ليس من أهل القتال ، إذ القتال لا يكون إلا بين اثنين ويكون كل واحد منهما مقاتلاً لصاحبه ، وإذا كان كذلك ثبت أن الجزية مأخوذة ممن كان من أهل القتال ومن يمكنه أداؤه من المحترفين ؛ ولذلك قال أصحابنا : إن من لم يكن من أهل القتال فلا جزية عليه ، فقالوا : من كان أعمى أو زَمِناً أو مفلوجاً أو شيخاً كبيراً فانياً وهو مُوسِرٌ فلا جزية عليه ؛ وهو قولهم جميعاً في الرواية المشهورة . ورُوي عن أبي يوسف في الأعمى والزَّمِنِ والشيخ الكبير أن عليهم الجزية إذا كانوا موسرين ، ورُوي عنه مثل قول أبي حنيفة . ورَوَى ابن رستم عن محمد في نوادره قال : قلت : أرأيتَ أهل الذمة من بني تغلب وغيرهم ليس لهم حرفة ولا مال ولا يقدرون على شيء ؟ قال : لا شيء عليهم ، قال محمد : وإنما يوضع الخراج على الغنيّ والمعتمل منهم . وقال محمد في النصراني يكتسب ولا يفضل له شيء عن عياله : " إنه لا يؤخذ بخراج رأسه " . وقالوا في أصحاب الصوامع والسياحين إذا كانوا لا يخالطون الناس : فلا جزية عليهم ، وإن كانوا يخالطون الناس فعليهم الجزية ، وكذلك النساء والصبيان لا جزية عليهم إذ ليسوا من أهل القتال . وروى أيوب وغيره عن نافع عن أسلم قال : " كتب عمر إلى أمراء الجيوش أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ولا يقتلوا النساء والصبيان ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المَواسي ، وكتب إلى أمراء الأجناد أن يضربوا الجزية ولا يضربوها على النساء والصبيان ولا يضربوها إلا على من جرت عليه المواسي " . وروى عاصم عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عِدْلَهُ من المعافر " .
مطلب : في مقدار الجزية
وأما مقدار الجزية قال الله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فلم تكن في ظاهر الآية دلالة على مقدار منها بعينه . وقد اختلف الفقهاء في مقدارها ، فقال أصحابنا : " على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهماً وعلى الوسط أربعة وعشرون درهماً وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهماً " ، وهو قول الحسن بن صالح . وقال مالك : " أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهماً على أهل الوَرِقِ الغنيّ والفقير سواء لا يزاد ولا ينقص " . وقال الشافعي : " دينار على الغني والفقير " . وروى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب قال : " بعث عمر بن الخطاب عثمانَ بنَ حنيف فوضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهماً وأربعة وعشرين درهماً واثني عشر درهماً " . وروى الأعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن عمرو بن ميمون قال : " بعث عمر بن الخطاب حُذَيفة بن اليمان على ما وراء دِجْلَةَ ، وبعث عثمان بن حنيف على ما دون دجلة ، فأتياه فسألهما : كيف وضعتما على أهل الأرض ؟ قالا : وضعنا على كل رجل أربعة دراهم في كل شهر ، قال : ومن يطيق هذا ؟ قالا : إن لهم فضولاً " ؛ فذكر عمرو بن ميمون ثمانية وأربعين درهماً ولم يفصل الطبقات ، وذكر حارثة بن مضرب تفصيل الطبقات الثلاث ، فالواجب أن يحمل ما في حديث عمرو بن ميمون على أن مراده أكثر ما وضع من الجزية وهو ما على الطبقة العليا دون الوسطى والسفلى . وروى مالك عن نافع عن أسلم : " أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الوَرِقِ أربعين درهماً مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام " ، وهذا نحو رواية عمرو بن ميمون لأن أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام مع الأربعين يفي ثمانية وأربعين درهماً ، فكان الخبر الذي فيه تفصيل الطبقات الثلاث أوْلى بالاستعمال لما فيه من الزيادة وبيان حكم كل طبقة ؛ ولأن من وضعها على الطبقات فهو قائل بخبر الثمانية والأربعين ومن اقتصر على الثمانية والأربعين فهو تارك للخبر الذي فيه ذكر تمييز الطبقات وتخصيص كل واحد بمقدار منها .
واحتجَّ من قال بدينار على الغني والفقير بما رُوي عن معاذ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر " ، وهذا عندنا فيما كان منه على وجه الصلح أو يكون ذلك جزية الفقراء منهم ، وذلك عندنا جائز ؛ والدليل عليه ما رُوي في بعض أخبار معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم أو حالمة ديناراً ، ولا خلاف أن المرأة لا تؤخذ منها الجزية إلا أن يقع الصلح عليه . وروى أبو عبيد عن جرير عن منصور عن الحكم قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ وهو باليمن : " إِنَّ في الحَالِمِ والحَالِمَةِ دِينَاراً أَوْ عِدْلَهُ مِنَ المَعَافِرِ " قال أبو عبيد : وحدثنا عثمان بن صالح عن عبدالله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن : " أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَلى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ فإِنَّه لا يُنْقَلُ عَنْها وعَلَيْهِ الجِزْيَةُ وعَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى عَبْدٍ أوْ أَمَةٍ دِينَارٌ أوْ قِيمَتُهُ مِنَ المَعَافِرِ " ويدل على أن الجزية على الطبقات الثلاث أن خراج الأرضين جُعل على مقدار الطاقة ، واختلف بحسب اختلافها في الأرض وغلّتها ، فجعل على بعضها قَفِيزاً ودرهماً وعلى بعضها خمسة دراهم وعلى بعضها عشرة دراهم ، فوجب على ذلك أن يكون كذلك حكم خراج الرؤوس على قدر الإمكان والطاقة ، ويدل على ذلك قول عمر لحذيفة وعثمان بن حنيف : لعلكما حمّلتما أهل الأرض ما لا يطيقون ؟ فقالا : بل تركنا لهم فضلاً . وهذا يدل على أن الاعتبار بمقدار الطاقة ، وذلك يوجب اعتبار حالي الإعسار واليسار . وذكر يحيى بن آدم أن الجزية على مقدار الاحتمال بغير توقيت ، وهو خلاف الإجماع . وحُكي عن الحسن بن صالح أنه لا تجوز الزيادة في الجزية على وظيفة عمر ويجوز النقصان ، وقال غيره : يجوز الزيادة والنقصان على حسب الطاقة . وقد رَوَى الحكم عن عمرو بن ميمون أنه شهد عمر يقول لعثمان بن حَنِيفٍ : " والله لئن وضعت عن كل جَرِيبٍ من الأرض قَفِيزاً ودرهماً وعلى كل رأس درهمين لا يشقّ ذلك عليهم ولا يجهدهم ! " قال : وكانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين . واحتج من قال بجواز الزيادة بهذا الحديث ، وهذا ليس بمشهور ولم تثبت به رواية . واحتجوا أيضاً بما رَوَى أبو اليمان عن صفوان بن عمرو عن عمر بن عبدالعزيز : " أنه فرض على رهبان الدِّيارات على كل راهب دينارين " ، وهذا عندنا على أن ذاهب من الطبقة الوسطى ، فأوجب ذلك عليهم ما رأى من احتمالهم له ، كما روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال : سألت مجاهداً : لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن ؟ قال : لليسار .
في تمييز الطبقات
قال أبو يوسف في كتاب الخراج : " تؤخذ منهم على الطبقات على ما وصفت ثمانية وأربعين على الموسر مثل الصيرفي والبزّاز وصاحب الصنعة والتاجر والمعالج والطبيب ، وكل من كان في يده منهم صنعة وتجارة يحترف بها أُخذ من أهل كل صناعة وتجارة على قدر صناعتهم وتجارتهم ثمانية وأربعون على الموسر وأربعة وعشرون من المتوسط ، من احتملت صناعة ثمانية وأربعين أُخذ منه ذلك ومن احتملت أربعة وعشرين أُخذ ذلك منه ، واثنا عشر على العامل بيده مثل الخياط والصباغ والجزار والإسكاف ومن أشبههم " . فلم يعتبر الملك واعتبر الصناعات والتجارات على ما جرت به عادة الناس في المُوسِرِ والمعسر منهم . وذكر علي بن موسى القمّي من غير أن عَزَى ذلك إلى أحد من أصحابنا أن الطبقة الأولى من يحترف وليس له ما يجب في مثله الزكاة على المسلمين وهم الفقراء المحترفون ، فمن كان له أقل من مائتي درهم فهم من أهل هذه الطبقة ، قال : والطبقة الثانية أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم فما زاد إلى أربعة آلاف درهم ؛ لأن من له مائتا درهم غنيّ تجب عليه الزكاة لو كان مسلماً فهو خارج عن طبقة الفقراء ، قال : وإنما أخذنا اعتبار الأربعة الآلاف من قول عليّ رضي الله عنه وابن عمر : " أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوق ذلك فهو كثير " ، قال : وقد يجوز أن تجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم وما زاد على ذلك فهو من الطبقة الثالثة لما رَوَى حماد بن سلمة عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن أبي الضيف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ تَرَكَ عَشْرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ صَفَائِحَ يُعَذَّبُ بِها يَوْمَ القِيَامَةِ " . وهذا الذي ذكره عليّ بن موسى القمّي هو اجتهاد يسوغ القول به لمن غلب في ظنه صوابه .
وقوله تعالى : { عَنْ يَدٍ } قال قتادة : " عن قهر " ، كأنه ذهب في اليد إلى القوة والقدرة والاستعلاء ، فكأنه قال : على استعلاء منكم عليهم وقهرهم . وقيل : { عَنْ يَدٍ } يعني عن يد الكافر . وإنما ذكر اليد ليفارق حال الغصب ؛ لأنه يعطيها بيده راضياً بها حاقناً بها دمه ، فكأنه قال : حتى يعطيها وهو راضٍ بها . ويحتمل : { عَنْ يَدٍ } عن نعمة ، فيكون تقديره : حتى يعطوا الجزية عن اعتراف منهم بالنعمة فيها عليهم بقبولها منهم . وقال بعضهم : { عَنْ يَدٍ } يعني عن نقد من قولهم : يداً بيد . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كل من أطاع القاهر بشيء أعطاه عن طيب نفس وقهر له من يد في يده فقد أعطاه عن يد . قال : والصاغر الذليل الحقير . وقوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } قال ابن عباس : " يمشون بها مُلَبَّبِين " ، وقال سلمان : " مذمومين غير محمودين " ، وقيل : " إنما كان صَغَاراً لأنها مستحقة عليهم يؤخذون بها ولا يُثابون عليها " . وقال عكرمة : " الصَّغَارُ إعطاء الجزية قائماً والآخذ جالس " . وقيل : " الصغار الذل " . ويجوز أن يكون المراد به الذلة التي ضربها الله عليهم بقوله : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] ، والحبل الذمة التي عهدها الله لهم وأمر المسلمين بها فيهم . ورَوَى عبدالكريم الجزري عن سعيد بن المسيب أنه كان يستحب أن يتعب الأنباط في الجزية إذا أُخذت منهم . قال أبو بكر : ولم يُرِدْ بذلك تعذيبهم ولا تكليفهم فوق طاقتهم ، وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسحاق بن الحسن : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا لَقِيتُمُ المُشْرِكِينَ في الطَّرِيقِ فلا تَبْدَؤُوهُمْ بالسَّلامِ واضْطَرُّوهُمْ إلى ضَيِّقِهِ " . وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا مطير قال : حدثنا يوسف الصفّارَ قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُصَافِحُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى " . فهذا كله من الصَّغَارِ الذي ألبس الله الكفار بكفرهم ؛ ونحوه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] الآية ، وقال : { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم } [ المائدة : 51 ] ، فنهى في هذه الآيات عن موالاة الكفار وإكرامهم وأمر بإهانتهم وإذلالهم ، ونهى عن الاستعانة بهم في أمور المسلمين لما فيه من العزّ وعُلوّ اليد ؛ وكذلك كتب عمر إلى أبي موسى ينهاه أن يستعين بأحد من أهل الشرك في كتابته ، وتلا قوله تعالى : { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] ، وقال : لا تردّوهم إلى العزّ بعد إذلالهم من الله .
وقوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قد اقتضى وُجُوبَ قتلهم إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصَّغَارِ والذلة ، فغير جائز على هذه القضية أن تكون لهم ذمة إذا تسلّطوا على المسلمين بالولايات ونفاذ الأمر والنهي ، إذ كان الله إنما جعل لهم الذمة وحَقَنَ دماءهم بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين ، فواجب على هذا قَتْلُ من تسلّط على المسلمين بالغصوب وأخْذِ الضرائب والظلم سواءٌ كان السلطان ولاّه ذلك أو فعله بغير أمر السلطان ، وهذا يدل على أن هؤلاء النصارى الذين يتولَّوْنَ أعمال السلطان وظهر منهم ظلم واستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة وإن كان آخذو الضرائب ممن ينتحل الإسلام ، والقعودُ على المراصد لأخد أموال الناس يوجب إباحة دمائهم إذْ كانوا بمنزلة قُطَّاع الطريق ومن قصد إنساناً لأخْذِ ماله ، فلا خلاف بين الفقهاء أن له قتله . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ طُلِبَ مَالُهُ فقَاتَلَ فقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ " وفي خبر آخر : " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ومَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " ؛ فإذا كان هذا حكم من طلب أخذ مال غيره غصباً وهو ممن ينتحل الإسلام فالذمي إذا فعل ذلك استحق القتل من وجهين ، أحدهما : ما اقتضاه ظاهر الآية من وجوب قتله ، والآخر : قصده المسلم بأخذ ماله ظلماً .
باب وقت وجوب الجزية
قال الله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ } إلى قوله : { حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ؛ فأوجب قتالهم وجعل إعطاء الجزية غاية لرفعه عنهم ؛ لأن " حتى " غاية . هذا حقيقة اللفظ والمفهوم من ظاهره ، ألا ترى أن قوله : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } [ البقرة : 222 ] قد حَظَرَ إباحة قربهنّ إلا بعد وجود طهرهنّ ؟ وكذلك المفهوم من قول القائل : " لا تُعْطِ زيداً شيئاً حتى يدخل الدار " مَنْعُ الإعطاء إلا بعد دخوله ، فثبت بذلك أن الآية موجبة لقتال أهل الكتاب مزيلة ذلك عنهم بإعطاء الجزية ، وهذا يدل على أن الجزية قد وجبت بعقد الذمة ، وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي ؛ وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف قال : " لا تؤخذ من الذمي الجزية حتى تدخل السنة ويمضي شهران منها بعض ما عليه بشهرين ، ونحو ذلك يعامل في الجزية ، بمنزلة الضريبة كلما كان يمضي شهران أو نحو ذلك أخذت منه " . قال أبو بكر : يعني بالضريبة الأجرة في الإجارات ؛ قال أبو يوسف : " ولا يؤخذ ذلك منه حين تدخل السنة ولا يؤخذ ذلك منه حتى تتمّ السنة ، ولكن يعامل ذلك في سنته " . قال أبو بكر : ذِكْرُهُ للشهرين إنما هو توفية وهي واجبة بإقرارنا إياه على الذمة ، لما تضمنه ظاهر الآية . وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال في الذمي : " يؤخذ منه خَرَاجُ رأسه في سنته ما دام فيها ، فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه " . وهذا يدل من قول أبي حنيفة على أنه رآها واجبةً بعقد الذمة لهم وأن تأخيرها بعض السنة إنما هو توفية للواجب وتوسعة ، ألا ترى أنه قال : " فإذا انقضت السنة لم تؤخذ منه " ؟ لأن دخول السنة الثانية يوجب جزية أخرى ، فإذا اجتمعتا سقطت إحداهما . وعن أبي يوسف ومحمد : " اجتماعهما لا يُسْقِطُ إحداهما " . وَجْهُ قول أبي حنيفة أن الجزية واجبة على وجه العقوبة لإقامتهم على الكفر مع كونهم من أهل القتال وحقّ الأخذ فيها إلى الإمام ، فأشبهت الحدود ، إذْ كانت مستحقة في الأصل على وجه العقوبة وحقّ الأخذ إلى الإمام ، فلما كان اجتماع الحدود من جنس واحد يوجب الاقتصار على واحد منهما مثل أن يزني مراراً أو يسرق مراراً ثم يُرفع إلى الإمام فلا يجب إلا حدٌّ واحد بجميع الأفعال ، كذلك حكم الجزية إذْ كانت مستحقة على وجه العقوبة بل هي أخفّ أمراً وأضعف حالاً من الحدود ؛ لأنه لا خلاف بين أصحابنا أن إسلامه يُسقطها ولا تَسقط الحدود بالإسلام .
فإن قيل : لما كان ذلك دَيْناً وحقّاً في مال المسلمين لم يُسْقِطْهُ اجتماعه ، كالديون وخراج الأرضِينَ . قيل له : خراج الأرضين ليس بصَغَارٍ ولا عقوبة ، والدليل عليه أنه يؤخذ من المسلمين والجزية لا تؤخذ من مسلم . وقد رُوي نحو قول أبي حنيفة عن طاوس ، وروى ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاوس قال : " إذا تداركت صدقاتٌ فلا تؤخذ الأولى كالجزية " .
وقد اختلف الفقهاء في الذميّ إذا أسلم وقد وجبت عليه جزية هل يؤخذ بها ؟ فقال أصحابنا : " لا يؤخذ " ، وهو قول مالك وعبيدالله بن الحسن . وقال ابن شبرمة والشافعي : " إذا أسلم في بعض السنة أُخذ منه بحساب ذلك " . والدليل على أن الإسلام يسقط ما وجب من الجزية قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله } إلى قوله : { حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ، فانتظمت هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة ما قلنا ، أحدهما : الأمر بأخذ الجزية ممن يجب قتاله لإقامته على الكفر إن لم يؤدِّها ، ومتى أسلم لم يجب قتاله فلا جزية عليه . والوجه الثاني : قوله تعالى : { عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فأمر بأخْذِها منهم على وجه الصَّغار والذلّة ، وهذا المعنى معدوم بعد الإسلام إذ غير ممكن أخذها على هذا الوجه ، ومتى أخذناها على غير هذا الوجه لم تكن جزية لأن الجزية هي ما أُخذ على وجه الصَّغَارِ . وقد روى الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ " ، فنفى صلى الله عليه وسلم أخْذَها من المسلم ولم يفرق بين ما وجب عليه في حال الكفر وبين ما لم يجب بعد الإسلام ، فوجب بظاهر ذلك إسقاط الجزية عنه بالإسلام . ويدل على سقوطها أن الجزية والجزاء واحد ومعناه جزاء الإقامة على الكفر ممن كان من أهل القتال ، فمتى أسلم سقط عنه بالإسلام المجازاة على الكفر ، إذْ غير جائز عقاب التائب في حال المهلة وبقاء التكليف ؛ولهذا الاعتبار أسقطها أصحابنا بالموت لفوات أخْذِهَا منه على وجه الصَّغَارِ بعد موته فلا يكون ما يأخذه جزية ، وعلى هذا قالوا فيمن وجبت عليه زكاة ماله ومواشيه فمات : إنها تسقط ولا يأخذها الإمام منه ؛ لأن سبيل أخْذِهَا وموضوعها في الأصل سبيل العبادات يسقطها الموت ، وقالوا فيمن وجبت عليه نفقة امرأته بفرض القاضي فمات أو ماتت إنها تسقط ، لأن موضوعها عندهم موضوع الصلة إذْ ليست بدلاً عن شيء ، ومعنى الصلة لا يتأتّى بعد الموت ، فأسقطوها لهذه العلة .
فإن قيل : الحدود واجبة على وجه العقوبة والتوبة لا تسقطها ، وكذلك لو أن ذمّياً أسلم وقد زنى أو سرق في حال كفره لم يكن إسلامه وتوبته مُسْقِطَيْنِ لحدّه وإن كان وجوب الحدّ في الأصل على وجه العقوبة ، والتائب لا يستحق العقاب على فعل قد صحت منه توبته . قيل له : أما الحدُّ الذي كان واجباً على وجه العقوبة فقد سقط بالتوبة ، وما نوجبه بعدها ليس هو الحدّ المستحق على وجه العقوبة بل هو حدٌّ واجب على وجه المحنة بدلالةٍ قامت لنا على وجوبه غير الدلالة الموجبة للحدِّ الأوّل على وجه العقوبة ، فإن قامت دلالة على وجوب أخْذِ المال منه بعد إسلامه لا على وجه الجزية والعقوبة لم نَأْبَ إيجابه ، إلا أنه لا يكون جزية لأن اسم الجزية يتضمن كونها عقوبة ، وأنت فإنما تزعم أنه تؤخذ منه الجزية بعد إسلامه ، فإن اعترفت بأن المأخوذ منه غير جزية وأن الجزية التي كانت واجبة قد سقطت وإنما يجب مال آخر غير الجزية فإنما أنت رجل سُمْتَنا إيجاب مال على مسلم من غير سبب يقتضي إيجابه ، وهذا لا نسلّم لك إلا بدلالة . وقد روى المسعودي عن محمد بن عبدالله الثقفي : " أنّ دِهْقاناً أسلم ، فقام إلى علي رضي الله عنه فقال له علي : أما أنت فلا جزية عليك وأما أرْضُك فلنا " ، وفي لفظ آخر : " إن تحولْتَ عنها فنحن أحقُّ بها " . وروى معمر عن أيوب عن محمد قال : " أسلم رجل ، فأخذ بالخراج ، وقيل له : إنك متعوذ بالإسلام ، فقال : إن في الإسلام لمعاذاً إن فعلتُ ، فقال عمر : أجل والله إن في الإسلام معاذاً إنْ فعل ! فرفع عنه الجزية " . وروى حماد بن سلمة عن حميد قال : كتب عمر بن عبدالعزيز : " من شهد شهادتنا واستقبل قِبْلَتنا واختتن فلا تأخذوا منه الجزية " . فلم يفرق هؤلاء السلف بين الجِزْيَةِ الواجبة قبل الإسلام وبين حاله بعد الإسلام في نفيها عن كل مسلم .
مطلب : كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة
وقد كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ، ويذهبون إلى أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فلا يسقط إسلام العبد ضريبته . وهذا خلل في جنب ما ارتكبوه من المسلمين ونقض الإسلام عُرْوَةً ، إلى أن ولي عمر بن عبدالعزيز فكتب إلى عامله بالعراق عبدالحميد بن عبدالرحمن : أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً ولم يبعثه جابياً ، فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة . فلما ولي هشام بن عبدالملك أعادها على المسلمين . وكان أحَدَ الأسباب التي لها استجاز القراء والفقهاء قتال عبدالملك بن مروان والحجّاج لعنهما الله أخْذُهم الجزية من المسلمين ، ثم صار ذلك أيضاً أحد أسباب زوال دولتهم وسَلْب نعمتهم . وروى عبدالله بن صالح قال : حدثنا حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب قال : " أعظم ما أتت هذه الأمّة بعد نبيها ثلاث خصال : قتلهم عثمان ، وإحراقهم الكعبة ، وأخذهم الجزية من المسلمين " . وأما قولهم : " إن الجزية بمنزلة ضريبة العبد " فليس ببدع ، هذا من جهلهم ، إِذْ قد جهلوا من أمور الإسلام ما هو أعظم منه ؛ وذلك لأن أهل الذمة ليسوا عبيداً ، ولو كانوا عبيداً لما زال عنهم الرقُّ بإسلامهم لأن إسلام العبد لا يزيل رِقَّهُ ، وإنما الجزية عقوبة عوقبوا بها لإقامتهم على الكفر ، فمتى أسلموا لم يَجُزْ أن يعاقبوا بأخذها منهم ، ألا ترى أن العبد النصراني لا تؤخذ منه الجزية ؟ فلو كان أهل الذمة عبيداً لما أُخذ منهم الجزية .
في خراج الأرض هل هو جزية
قال أبو بكر : اختلف أهل العلم في خراج الأرضين هل هو صَغَارٌ وهل يكره للمسلم أن يملك أرض الخراج ، فرُوي عن ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين كراهته ورأوه داخلاً في آية الجزية ، وهو قول الحسن بن حي وشريك . وقال آخرون : " الجزية إنما هي خراج الرؤوس ولا يُكره للمسلم أن يشتري أرض خراج وليس ذلك بصغار " ، وهو قول أصحابنا وابن أبي ليلى . ورُوي عن عبدالله بن مسعود ما يدل على أنه لم يكرهه ، وهو ما روى شعبة عن الأعمش عن شمر بن عطية عن رجل من طيّ عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا " ، قال عبدالله : وبرَاذَانَ ما بِرَاذَانَ وبالمدينة ما بالمدينة ! يعني أن له ضيعة براذان وضيعة بالمدينة ؛ ومعلوم أن راذان من أرض الخراج ، فلم يكره عبدالله ملك أرض الخراج . ورُوي عن عمر بن الخطاب في دهقانة نهر الملك حين أسلمت : إن أقامت على أرضها أخذنا منها الخراج . ورُوي أن ابن الرفيل أسلم فقال مثل ذلك . وعن علي في رجل من أهل الأرض أسلم فقال : إن أقمتَ على أرضك أخذنا منك الخراج وإلا فنحن أوْلى بها . ورُوي عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد مثل ذلك . وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنَعَتِ العِرَاقُ قَفِيزَهَا ودِرْهَمَها ومَنَعَتِ الشَّامُ مُدَّهَا ودِينَارَها ومَنَعَتِ مِصْرُ إِرْدَبَّها وعُدْتُمْ كما بَدَأْتُمْ " ثلاث مرات ، يشهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه . وهذا يدل على أن خراج الأرض ليس بصغار من وجهين ، أحدهما : أنه لم يكره لهم ملك أرض الخراج التي عليها قفيز ودرهم ، ولو كان ذلك مكروهاً لذكره . والثاني : أنه أخبر عن منعهم لحقّ الله المفترض عليهم بالإسلام ، وهو معنى قوله : " عُدْتُمْ كما بَدَأْتُمْ " يعني في منع حقّ الله ، فدل على أنه كسائر الحقوق اللازمة لله تعالى مثل الزكوات والكفارات لا على وجه الصَّغَار والذِّلَّة . وأيضاً لم يختلفوا أن الإسلام يُسْقِطُ جزية الرؤوس ولا يسقط على الأرض ، فلو كان صغاراً لأسقطه الإسلام .
فإن قيل : لما كان خراج الأرضين فيئاً وكذلك جزية الرؤوس دلّ على أنه صغار . قيل له : ليس كذلك ؛ لأن من الفيء ما يُصرف إلى الغانمين ومنه ما يصرف إلى الفقراء والمساكين وهو الخمس ، وهذا كلام في الوجه الذي يصرف فيه ، وليس يوجب ذلك أن يكون صغاراً ؛ لأن الصغار في الفيء هو ما يبتدأ به الذي يجب عليه فأما ما قد وجب في الأرض من الحق ثم ملكها مسلم فإن ملك المسلم له لا يزيله إذ كان وجوبه فيها متقدماً لملكه وهو حقّ لكافة المسلمين ، ولم تكن الجزية صغاراً من حيث كانت فيئاً وإنما كانت صَغَاراً من حيث كانت عقوبة ، وليس خراج الأرضين على وجه العقوبة ، ألا ترى أن أرض الصبي والمعتوه يجب فيهما الخراج ولا تؤخذ منهما الجزية ؟ لأن الجزية عقوبة وخراج الأرضين ليس كذلك .
فصل
إن قال قائل من الملحدين : كيف جاز إقرار الكفّار على كفرهم بأداء الجزية بدلاً من الإسلام ؟ قيل له : ليس أخْذُ الجزية منهم رضاً بكفرهم ولا إباحةً لبقائهم على شركهم ، وإنما الجزية عقوبة لهم لإقامتهم على الكفر وتبقيتهم على كفرهم بالجزية كهي لو تركناهم بغير جزية تؤخذ منهم ، إذ ليس في العقل إيجاب قتلهم لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يبقي الله كافراً طرفة عين ، فإذا بقاهم لعقوبة يعاقبهم بها مع التبقية استدعاءً لهم إلى التوبة من كفرهم واستمالة لهم إلى الإيمان لم يكن ممتنعاً إمهاله إياهم إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن ومنهم من يكون من نسله من يؤمن بالله ، فكان في ذلك أعظم المصلحة مع ما للمسلمين فيها من المرفق والمنفعة ؛ فليس إذاً في إقرارهم على الكفر وترك قتلهم بغير جزية ما يوجب الرضا بكفرهم ولا الإباحة لاعتقادهم وشركهم ، فكذلك إمهالهم بالجزية جائز في العقل إذ ليس فيه أكثر من تعجيل بعض عقابهم المستحق بكفرهم وهو ما يلحقهم من الذل والصغار بأدائها .