الآية الحادية عشرة : قوله تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ، ولَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى : في سبب نزولها :
قيل : إنها نزلت في نصارى نَجْران ، وكذلك رُوي أنّ السورة كلها إلى قوله : { وإذ غَدَوْتَ من أهلك } كان سبب نزولها نصارى نَجْران ، ولكن مُزِجَ معهم اليهود ؛ لأنهم فَعَلُوا من الْجَحْد والعناد مثل فِعْلهم .
المسألة الثانية : في قوله تعالى : { رَبَّانِيِّينَ } :
وهو منسوب إلى الربّ ، وقد بيّنا تفاصيلَ معنى اسم الرب في الأمد الأقصى ، وهو هاهنا عبارة عن الذي يُرَبِّي الناسَ بصغار العلم قبل كباره ، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه وتعالى في تيسير الأمور المجملة في العَبْد على مقدار بَدَنِه من غذاءٍ وبلاء .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .
المعنى : وإنَّ عِلْمَهم بالكتاب ، ودَرْسَهم له يوجِبُ ذلك عليهم ؛ لأنَّ هذا من المعاني التي شُرِحت فيه لهم .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً } .
المعنى : ولا آمرُ الْخَلْقَ أنْ يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً يعبدونهم ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه لا يأمر بالكُفْر مَنْ أسلم فعلاً ، ولا يأمر بالكُفْر ابتداء ؛ لأنه محال عقلاً ، فلما لم يتقدر ولا تصوّر لم يتعلق به أمر .
المسألة الخامسة : حرَّم الله تعالى على الأنبياء أنْ يتخذوا الناسَ عباداً يتألّهون لهم ، ولكن ألزمَ الْخَلْقَ طاعتهم .
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأمَتي ، وليقُلْ فَتاي وفتَاتي ، ولا يَقُلْ أحدكم رَبّي وليقل سيِّدي » .
وقد قال الله تعالى - مُخْبراً عن يوسف : { اذْكُرْني عند ربك } [ يوسف :42 ] . وقال : { والصالحين مِنْ عبادِكم وإمائِكم } [ النور :32 ] . وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ . . . . » فتعارضت .
فلو تحققنا التاريخ لكان الآخر رافعاً للأول أو مبيِّناً له على اختلاف الناس في النسخ . وإذا جهلنا التاريخ وجب النظرُ في دلالة الترجيح .
وقد مهَّدْنا ذلك في شَرْح الحديث بما الكافي منه الآن لكم ترجيحُ الجواز ؛ لأنّ النهي إنما كان لتخليص الاعتقاد مِن أنْ يعتقد لغير الله عبوديةً أو في سواه ربوبيةً ، فلما حصلت العقائدُ كان الجواز .
المسألة السادسة : قوله تعالى : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ }
قرأ ابنُ عامر وأهلُ الكوفة بضم التاء ، وكأنّ معناه لا تتخذوهم عباداً بحقّ تعليمكم ، فإنه فَرْضٌ عليكم أو إشراك في نيَّتكم ، أو استعجال لأجركم ، أو تبديل لأمْرِ الآخرة بأمر الدنيا ؛ واختاره الطبري على قراءة فتح التاء .
قال شيخنا أبو عبدالله العربي : كذلك يقتضي صفةَ العلم وقراءته ؛ لأنَّ العلم إنما هو للتعليم لتحريم كِتْمانِ العلم ، والأمر في ذلك قريبٌ ؛ وليس هذا موضع تحريره .