الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَسْتَفْتُونَك قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي وَقْتِ نُزُولِهَا :
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ : آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةَ ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : «مَرِضْت وَعِنْدِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ لِي ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَضَحَ فِي وَجْهِي مِنْ الْمَاءِ ، فَأَفَقْت فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ : أَحْسِنْ . قُلْت : بِالشَّطْرِ ؟ قَالَ : أَحْسِنْ ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَنِي ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا أَرَاك مَيِّتًا مِنْ وَجَعِك هَذَا ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الَّذِي لِأَخَوَاتِك فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ » .
وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ : نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ قَتَادَةُ : وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : أَلَا إنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ شَأْنِ الْفَرَائِضِ نَزَلَتْ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَمَا جَرَّتْ الرَّحِمُ مِنْ الْعَصَبَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ ، وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ ، فَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ وَبَلَّغَهَا عُمَرُ ، وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ ، فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ حُذَيْفَةَ عَنْهَا ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : «وَاَللَّهِ إنَّك لَعَاجِزٌ » . هَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ .
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِيهَا : وَاَللَّهِ إنَّك لَأَحْمَقُ إنْ ظَنَنْت أَنَّ إمَارَتَك تَحْمِلُنِي عَلَى أَنْ أُحَدِّثَك بِمَا لَمْ أُحَدِّثْك يَوْمئِذٍ . فَقَالَ عُمَرُ : لَمْ أُرِدْ هَذَا رَحِمَك اللَّهُ ، وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُك عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ : «اللَّهُمَّ مَنْ كُنْت بَيَّنْتهَا لَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لِي » .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ نَازَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ ، وَقَالَ : «يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءٍ يَعْلَمُهُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُهُ ، وَهُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ » .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَى الْآيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى فَكَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً ، فَلِأُخْتِهِ النِّصْفُ فَرِيضَةً مُسَمَّاةً . فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى فَهِيَ مَعَ الْأُنْثَى عَصَبَةٌ يَصِيرُ لَهَا مَا كَانَ يَصِيرُ لِلْعَصَبَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ ، وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ مَعَهُ ؛ فَيَكُونُ لِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَجْهٌ ؛ إذْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ الْمَيِّتَ إذَا تَرَكَ بِنْتًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَخٌ ذَكَرٌ ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّهَا إذَا وَرِثَتْ الْمَيِّتَ كَلَالَةً ، وَتَرَكَ بَيَانُ مَا لَهَا مِنْ حَقٍّ إذَا لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً ؛ فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيِ رَبِّهِ ، فَجَعَلَهَا عَصَبَةً مَعَ إنَاثِ وَلَدِ الْمَيِّتِ ، وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ وِرَاثَتَهَا فِي الْمَيِّتِ إذَا كَانَ مَوْرُوثًا عَنْ كَلَالَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } :
مَعْنَاهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَضِلُّوا ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ ضَلَالٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا ؟ وَلَمْ يَعْلَمْهَا عُمَرُ وَلَا اتَّفَقَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَمَا زَالَ الْخِلَافُ إلَى الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ .
قُلْنَا : لَيْسَ هَذَا ضَلَالًا ، وَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الْمَوْعُودُ بِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ نَصًّا يُدْرِكُهُ الْجَفْلَي ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَظْنُونًا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ لِيَرْفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، وَيَتَصَرَّفُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي مَسَالِكِ النَّظَرِ ، فَيَدْرِك بَعْضُهُمْ الصَّوَابَ فَيُؤْجَرُ عَشَرَةَ أُجُورٍ ، وَيُقَصِّرُ آخَرُ فَيُدْرِكُ أَجْرًا وَاحِدًا ، وَتَنْفُذُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْعُلَمَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .