الْآيَة الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ من دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } :
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَطُوفُ ، فَأَنْذَرَ أَصْحَابَه بِالْعُمْرَةِ ، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ من أَصْحَابِهِ ، وَمِائَتَيْ قُرَشِيٍّ ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابُهُ ، وَبَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَصَالَحُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ من الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ بِالسَّيْفِ وَالْفَرَسِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَهُوَ السَّيْفُ فِي قِرَابِهِ ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةٌ الْقَضِيَّةِ ، لِمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ من الْقَضِيَّةِ ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاهَا من قَابِلٍ . وَسُمِّيَتْ مَرَّةً عُمْرَةَ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أَيْ اقْتَصَصْتُمْ مِنْهُمْ كَمَا صَدُّوكُمْ : فَارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ ، وَدَخَلَ الْهَمُّ عَلَى جَمَاعَةٍ من الرُّفَعَاءِ من أَصْحَابِهِ ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ لَهُ : أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّهُ دَاخِلٌ الْبَيْتَ فَمُطَّوِّفٌ بِهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ الْعَامَ ، وَإِنَّهُ آتِيه فَمُطَوّفٌ بِهِ . وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَرَاجَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُرَاجَعَةِ أَبِي بَكْرٍ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا يَعْنِي من الْخَيْرِ كَفَّارَةً لِذَلِكَ التَّوَقُّفِ الَّذِي دَاخَلَهُ حِينَ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ ، وَلَمْ تَخْرُجْ رُؤْيَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ .
المسألة الثَّالِثَةُ : فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ آمَنِينَ فَحَلَّقُوا وَقَصَّرُوا .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ «أَخَذَ من شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ » وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَا فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ ، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا انْقَضَتْ الثَّلَاثُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِمَيْمُونَةَ بِمَكَّةَ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي ذِكْرِ مَيْمُونَةَ خَاصَّةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .