الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ، قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ من النَّادِمِينَ من أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا } : اُخْتُلِفَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ من بَنِي إسْرَائِيلَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ وَلَدُ آدَمَ لِصُلْبِهِ ، وَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُ من النَّاسِ ، جَرَى من أَمْرِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : ( مَا من قَتِيلٍ يُقْتَلُ [ ظُلْمًا ] إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ من دَمِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا } :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَابِيلَ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَفْعَلُ بِهَابِيلَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ ، فَتَنَازَعَا فَاقْتَتَلَا ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْغُرَابَ إنَّمَا بُعِثَ لِيُرِيَ ابْنَ آدَمَ كَيْفِيَّةَ الْمُوَارَاةِ لِهَابِيلَ خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { سَوْأَةَ أَخِيهِ } :
قِيلَ : هِيَ الْعَوْرَةُ . وَقِيلَ : لَمَّا أَنْتَنَ صَارَ كُلُّهُ عَوْرَةً ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ سَوْأَةً لِأَنَّهَا تَسُوءُ النَّاظِرَ إلَيْهَا عَادَةً .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : دَفْنُ الْمَيِّتِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِسَتْرِهِ . الثَّانِي لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْأَحْيَاءَ بِجِيفَتِهِ .
وَقِيلَ : إنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ الْغُرَابَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كَانَا غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ ، فَبَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى سَوْأَةِ أَخِيهِ حَتَّى عَرَفَ كَيْفَ يَدْفِنُهُ .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ ابْنَ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ حَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ سَنَةً يَدُورُ بِهِ ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ، وَدَفَنَ فَتَعَلَّمَ ، وَعَمِلَ مِثْلَ مَا رَأَى ، وَقَالَ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) . وَقَالَ تَعَالَى : ( أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) . وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي الْخَلْقِ ، وَفَرْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْكِفَايَةِ ، مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَرْضُهُ ؛ وَأَخَصُّ الْخَلْقِ بِهِ الْأَقْرَبُونَ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ من الْجِيرَةِ ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَهُوَ حَقٌّ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ ( عَلِيٍّ قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ ، فَمَنْ يُوَارِيهِ ؟ قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك ، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي . فَوَارَيْته ، ثُمَّ جِئْت ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ وَدَعَا لِي ) .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } :
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ ؛ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَأَصْبَحَ من النَّادِمِينَ } :
وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْكَامِ هَاهُنَا لِأَنَّهَا من الْأُصُولِ ؛ لَكِنَّا نُشِيرُ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِهَا ، فَنَقُولُ : من الْغَرِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ نَدِمَ وَهُوَ فِي النَّارِ ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( النَّدَمُ تَوْبَةٌ ) .
قُلْنَا : عَنْ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْحَدِيثُ لَيْسَ يَصِحُّ ، لَكِنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سَلِمَ ، لَكِنَّ النَّدَمَ لَهُ شُرُوطٌ ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بِشُرُوطِهِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُقْبَلْ .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ نَدَمُهُ ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ النَّدَمُ إذَا اسْتَمَرَّ .
الثَّالِثُ : أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَاضِي إنَّمَا يَنْفَعُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ } :
تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ قَالَ : إنَّ ابْنَيْ آدَمَ كَانَا من بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ . وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَخْلُ زَمَانُ آدَمَ وَلَا زَمَنُ مَنْ بَعْدَهُ من شَرْعٍ . وَأَهَمُّ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ حِمَايَةُ الدِّمَاءِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ وَحِيَاطَتُهُ بِالْقِصَاصِ كَفًّا وَرَدْعًا لِلظَّالِمِينَ وَالْجَائِرِينَ وَهَذَا من الْقَوَاعِدِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمِلَلُ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ لِلْكِتَابِ فِيهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَ ذَلِكَ من الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ كَانَ قَوْلًا مُطْلَقًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ ، بَعَثَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ فَكَتَبَ لَهُ الصُّحُفَ ، وَشَرَعَ لَهُ دِينَ الْإِسْلَامِ ، وَقَسَّمَ وَلَدَيْهِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ ، فَوَضَعَ اللَّهُ إسْمَاعِيلَ بِالْحِجَازِ مُقَدِّمَةً لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاهَا عَنْ الْجَبَابِرَةِ تَمْهِيدًا لَهُ ، وَأَقَرَّ إِسْحَاقَ بِالشَّامِ ، وَجَاءَ مِنْهُ يَعْقُوبُ وَكَثُرَتْ الْإِسْرَائِيلِيَّة ، فَامْتَلَأَتْ الْأَرْضُ بِالْبَاطِلِ فِي كُلِّ فَجٍّ ، وَبَغَوْا ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى وَكَلَّمَهُ وَأَيَّدَهُ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ ، وَخَطَّ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ، وَأَمَرَهُ بِالْقِتَالِ ، وَوَعَدَهُ النَّصْرَ ، وَوَفَّى لَهُ بِمَا وَعَدَهُ ، وَتَفَرَّقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ بِعَقَائِدِهَا ، وَكَتَبَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي التَّوْرَاةِ الْقِصَاصَ مُحَدَّدًا مُؤَكَّدًا مَشْرُوعًا فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ ، إلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ من الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا بِكَثِيرٍ من ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } :
هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً لَيْسَ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا سَبِيلُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَجَازُ ، وَلَهُ وَجْهٌ وَفَائِدَةٌ ؛ فَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَاهُ قَتَلَ نَبِيًّا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ من الْخَلْقِ يُعَادِلُ الْخَلْقَ ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ بَعْدَهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي النَّبِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ ، إمَّا لِأَنَّهُ فَقَدَ نَفْسَهُ ، فَلَا يَعْنِيهِ بَقَاءُ الْخَلْقِ بَعْدَهُ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَأْثُومٌ وَمُخَلَّدٌ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَاخْتَارَهُ مُجَاهِدٌ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَعَكْسُهُ فِي الْإِحْيَاءِ مِثْلُهُ .
الثَّالِثُ : قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ مَعْنَاهُ يُقْتَلُ بِمَنْ قُتِلَ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ ، وَمَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ أَجْمَعِينَ .
الرَّابِعُ : أَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ذَمَّ الْقَاتِلِ ، كَمَا عَلَيْهِمْ إذَا عَفَا مَدْحُهُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازٌ . وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ من بَعْضٍ .