الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ : ( مَرْصُوصٌ ) ، أَيْ مُحْكَمٌ ثَابِتٌ ، كَأَنَّهُ عُقِدَ بِالرَّصَاصِ ، وَكَثِيرًا مَا تُعْقَدُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ الْقَدِيمَةُ ، عَايَنَتْ مِنْهَا بِمِحْرَابِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ كَذَلِكَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ . وَيُقَالُ : حَدِيثٌ مَرْسُوسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ سِيقَ سِيَاقَةً مُحْكَمَةً مُرَتَّبَةً .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ إرَادَةُ الثَّوَابِ لِلْعَبْدِ .
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي إحْكَامِ الصُّفُوفِ جَمَالٌ لِلصَّلَاةِ ، وَحِكَايَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ ، وَهَيْئَةٌ لِلْقِتَالِ ، وَمَنْفَعَةٌ فِي أَنْ تُحْمَلَ الصُّفُوفُ عَلَى الْعَدُوِّ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الْخُرُوجُ من الصَّفِّ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ ، أَوْ فِي رِسَالَةٍ يُرْسِلُهَا الْإِمَامُ ، وَمَنْفَعَةٍ تَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ ، كَفُرْصَةٍ تُنْتَهَزُ وَلَا خِلَافَ فِيهَا ، أَوْ يَتَظَاهُرٍ عَلَى التَّبَرُّزِ لِلْمُبَارَزَةِ .
وَفِي الْخُرُوجِ عَنْ الصَّفِّ لِلْمُبَارَزَةِ خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ إرْهَابًا لِلْعَدُوِّ ، وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ ، وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَبْرُزُ أَحَدٌ طَالِبًا لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِيَاءً وَخُرُوجًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ من تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُبَارَزَةُ إذَا طَلَبَهَا الْكَافِرُ ، كَمَا كَانَتْ فِي حُرُوبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ ، وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ .