– قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء . . . } إلى قوله : { واللائي يئسن من . . . . المحيض } الآية :
الطلاق حل العصمة وهو مكروه على الجملة . فإذا وقع جاز فيكون معنى الآية إذا وقعتم هذا الشيء المكروه فالحكم فيه كذا . ويؤكد ذلك من الحديث ما رواه أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله تعالى لا يحب الذواقين ولا الذواقات " {[10752]} وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق " {[10753]} . وفي الحديث أيضا : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " {[10754]} . وقال ابن المنذر : أباح الله تعالى الطلاق بهذه الآية وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : " فإن شاء أمسك وإن شاء طلق " {[10755]} . وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها فجعل الطلاق على ظاهر لفظه من قبيل المباح . والصحيح أنه من قبيل المكروه وأن المعنى في الآية ما قدمته .
- قوله تعالى : { لعدتهن } :
معناه لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن . وقد قرأ جماعة من الصحابة هذه الآية : { فطلقوهن في قبل عدتهن } وقرأ بعضهم : { لقبل عدتهن } . وروى ابن عمر القراءتين عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ ابن مسعود : { لقبل طهرهن } . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " طلقوا المرأة في قبل طهرها " {[10756]} . والمعنى في ذلك كله أن لا يطلقها وهي حائض فهو منهي عنه بالآية لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله تعالى بها وهو استقبال العدة . فالعدة التي أمر الله تعالى بالطلاق فيها هي الطهر . إلا أنه يستحب أن يكون طهرا لم يجامع فيه لئلا يلبس على المرأة العدة فلا تدري بم تعتد هل بالوضع أو بالقراء ؟ وقيل ليكون هو على يقين من نفي حمل إن أتت به فأراد أن ينفيه . واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض هل هو لعلة أم لا ؟ فقيل لعلة لأن ذلك بطول العدة عليها . وقيل بل ذلك لغير علة وإن علل بالتطويل لا ينبغي أن يجوز إذا رضيت به المرأة . وقد حكي عن الشافعي أن ذلك يجوز إذا رضيت به المرأة {[10757]} طردا للتعليل المذكور . فإذا ثبت أن طلاق الحائض منهي عنه بالآية لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وأن الطلاق ينبغي أن يوقع إذا وقع في طهر . فإن أوقع أحد الطلاق في الحيض فهو لازم يعتد به خلافا لابن علية {[10758]} وبعض أهل الظاهر في قولهم إنه لا ينفذ وقع على خلاف ما أمر الله تعالى به . والصحيح أنه يعتد به للأدلة القوية في ذلك وإذا كان كذلك ففي المذهب أنه يجبر على مراجعتها حتى يطلقها على الصفة التي ذكر الله تعالى ، قال : { فطلقوهن لعدتهن } ، فكأنه ألزم من طلق أن يطلق في الطهر ، فإن طلق في الحيض لزم أن يجبر على الرجعة حتى يوقعه على الوجه اللازم . وعلى هذا من الإيجاب يحمل أمره عليه الصلاة والسلام بالمراجعة . وذهب الشافعي والأوزاعي والكوفيون إلى أنه لا يجبر على الرجعة ومن حجتهم أن الله تعالى إنما أمر أن تطلق المرأة في الطهر فغاية ما في هذا أن يكون نهيا عن ضده . فيكون قد نهى عن إيقاع الطلاق في الحيض ، وليس في الآية حكم لمن أوقعه في المحيض هل يجبر أم لا ؟ وأما أمره عليه الصلاة والسلام بالمراجعة فإنه لا يحمل أيضا على الإيجاب بل يحمل ذلك على الندب ، وإذا كان هكذا فلا يجبر على الرجعة . والقول الأول أصح في طريق الاعتبار ولذا أجبر على الرجعة ، ففي الحديث أن ابن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر : " مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء " {[10759]} . فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء . وروى بعضهم هذا الحديث : ليراجعها فإذا طهرت طلقها إن شاء . وقال بكل واحد من الحديثين طائفة من العلماء . ووجه ما جاء في الحديث الأول أن الطهر الأول الوطء فيه مقصود فلا يصح فيه الطلاق . وقيل إنما منع من الطلاق فيه عقوبة لا لعلة . واختلف في الحامل متى تطلق ؟ ففي المذهب أنه يطلقها متى شاء لأنه متى طلقها فهي تستقبل عدتها لا تنتظر طهرا كما تصنع التي تحيض . فطلاقها موافق لما أمر الله تعالى به ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ، وخالف الأوزاعي فذهب إلى أنه يطلقها للأهلة . وكره الحسن طلاقها وهي حامل . وأما إن حاضت الحامل على حملها فهو يجوز للزوج أن يطلقها في الحيض أم لا ؟ ففيه قولان للمتأخرين . ووجه الجواز أن عدة الحامل وضع الحمل وارتفعت العلة لأنه متى طلقها فذلك في قبل العدة ، وإذا قلنا إنما يطلق في الطهر فحكمه أن يطلق واحدة في طهر لم يمس فيه ويأتي على قول من يرى الإقراء الحيض أن يطلق واحدة فهي في طهر ولا يشترطون مس فيه أو لم يمس . وأما غير هذا من الطلاق مثل أن يطلق في كل طهر طلقة أن يطلق ثلاثا في طهر واحد فليس بمراد في الآية . وعلى هذا جمهور أهل المذهب لأنه عندهم مخالف للسنة . لكن إذا وقع لزم إذ ليس في الآية دليل قطعي على تحريمه . وعند أشهب أن من طلاق السنة أيضا أن يطلق في كل طهر طلقة ، وهو قول الكوفيين وجماعة سواهم . فيكون هذا الطلاق أيضا مما أباحه الله تعالى في الآية على هذا القول . وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : ليس في عدة {[10760]} الطلاق بدعة ولا سنة وإنما السنة في وقت الطلاق بطلاق المرأة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا في طهر لم يصبها {[10761]} فيه طلاق سنة واحتجوا بقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } ولم يخص واحدة من اثنتين ولا ثلاثا . وكذلك أمر صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يطلق في الموضع {[10762]} الذي يجوز له ولم يخص واحدة من غيرها . ورد بعضهم على هذا القول بأنه لو كان طلاق ثلاث في كلمة من السنة لبطلت فائدة قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } . قال أهل التفسير : يعني به الرجعة في العدة . قالوا : فأي أمر {[10763]} يحدث بعد الثلاث . فدل أن المراد بالطلاق في الآية الطلاق الرجعي لأن الرجعة لا تسوغ في البائن بالثلاث {[10764]} .
وقوله تعالى : { وأحصوا العدة } :
أي عدوها بما يلحق بها من الأحكام في الميراث والسكنى والرجعة ونحو ذلك .
قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } :
أعلم الله تعالى بهذه الآية أنهن يلزمهن السكنى في بيوتهن التي طلقن فيها فنهى عن إخراجهن وخروجهن . فعلى هذا تلزم بيتها ولا تخرج منه إلا أن تخرج نهارا في حاجة لها . وهو لازم للمطلقة الرجعية بإجماع من العلماء . وكذلك لا خلاف في وجوب السكنى والنفقة لها . وهذا النهي لعلة وهي حفظ الأنساب والمخاطبة لقوله تعالى : { لا تخرجوهن } للأزواج . ففي هذا دليل أن البيت إنما هو للزوج ملكا كان أو كراء ، فيلزمه أن يتركها فيه حتى تنقضي عدتها {[10765]} وإن كان لها فعليه لها الكراء {[10766]} وإن كانت أمتعته مدة الزوجية ففي لزوم خروج والعدة له قولان في المذهب ، الأظهر منهما اللزوم لأن ظاهر الآية على ما قدمنا أن سكناها في العدة إنما هو على الزوج . وإذا كان كذلك فسواء تقدم امتناع منها له أو لم يتقدم ولا تكون العدة داخلة في الإمتاع بمدة الزوجية لأن الزوجية قد انفصلت {[10767]} بالطلاق .
وقوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } :
اختلف في هذه الفاحشة التي أباحت خروج المعتدة ما هو ؟ فقال الحسن ومجاهد وقتادة هي الزنا ، فتخرج بإقامة الحد ، وهو قول الليث والشعبي وغيرهما . وقال ابن عباس هي البذاء على الأحماء فتخرج ويسقط حقها من السكنى ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب {[10768]} . وقال ابن عمر والسدي هي الخروج عن البيت خروج انتقال ، فمتى فعلت ذلك فقد سقط حقها في السكنى ، وإلى هذا ذهب مالك في الناشز في العدة . وقال قتادة أيضا المعنى إلا أن يأتين بفاحشة من نشوز عن الخروج فيطلق بسبب ذلك فلا يكون عليه سكنى . وقال ابن عباس أيضا : الفاحشة جميع المعاصي ، فمتى سرقت أو قذفت أو زنت أو أربت في تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى ، وإلى هذا القول مال الطبري رحمه الله تعالى {[10769]} وقال بعض الناس متى وردت الفاحشة معرفة في القرآن فهي الزنا ومتى جاءت منكرة فهي في مطلق المعاصي ، فمرة يراد بها عشرة الزوج ومرة غير ذلك .
وقوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } :
اختلف في تأويله . فذهب الأكثر إلى أن المراد به الرجعة ، أي احصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به من طلاق السنة تقدروا على التخلص إن ندمتم فإنكم لا تدرون لعلكم تندمون فتريدون الرجعة . وذهب إلى أن المعنى : لعل الله يحدث أمرا من النسخ . وهو بعيد . وهذه الآية المتقدمة في الآية من أن لا يخرجن إنما هي في المطلقة واحدة واثنتين بدليل قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } على القول بأن المراد به الرجعة . وقال بعضهم هي لمن لم يطلق وللمطلقة أقل من الثلاث . وقال بعضهم : هي لكل مطلقة ثلاثا فما دونها وهذا يأتي على قول الشافعي المتقدم في الثلاث . وعلى هذا يأتي الاختلاف في المطلقة الطلاق البائن هل لها سكنى أم لا ؟ فعلى قول الشافعي يكون لها السكنى لأنه ظاهر الآية على قوله ، وسيأتي الكلام على ذلك . وهل يلزمها المقام بالمسكن وترك الخروج أم لا ؟ وسيأتي الكلام على ذلك أيضا . وقد قيل إن سبب الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة فأمره الله تعالى بمراجعتها {[10770]} . وقوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } يريد آخر القرء . والإنفاق بالمعروف وهو تحسين العشرة في النفقة عليهن والصحبة لهن . والفراق بالمعروف هو تأدية الصداق والإمتاع والوفاء بالشروط ونحو ذلك .