– قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك… . } إلى قوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } :
اختلف في سبب {[10810]} هذه الآية . فروي عن عكرمة وابن عباس أنها نزلت بسبب أم شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم . وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها نزلت بسبب العسل الذي شربه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له من دنا منها : أكلت مغافير . والمغافير : صمغ العرفط ، وهو حلو ثقيل الرائحة ، ففعلن ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ولكني شربت عسلا " . فقلت له : جرست نخله العرفط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أشربه أبدا " . وكان يكره أن يوجد منه رائحة ثقيلة . وروي أنه حلف ، وروي أيضا أنه حرم العسل ، والآية تدل على ذلك . فدخل بعد ذلك على زينب فقالت : ألا نسقيك من ذلك العسل ؟ قال : " لا حاجة لي به " . قالت عائشة : فقالت سودة حين بلغها امتناعه : ولقد حرمناه . قلت لها : أسكتي {[10811]} . وروي عن زيد بن أسلم وغيره في سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى إليه المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية . فلما كان في بعض الأيام – وهو يوم حفصة بنت عمر ، وقيل بل كان يوم عائشة – جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت لزيارة أبيها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته ، فقال معها ، فجاءت حفصة فوجدتها ، فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت . فدخلت حفصة غيرى متغيرة فقالت يا رسول الله : أما كان في نسائك أهون عليك مني ؟ أفي بيتي وعلى فراشي ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم متراضيا : " أيرضيك أن أحرمها ؟ " قالت : نعم . فقال إني قد حرمتها {[10812]} قال بعضهم ولم يقل مع ذلك : والله لما أطأها وذلك مذكور عن أبي بكر وعمر وابن عباس . وقال ابن عباس : بل قال مع ذلك : " والله لا أطأها أبدا " . ثم قال لها لا تخبري بهذا أحدا . فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة قال : استكتمها خوفا من غضب عائشة وحسن عشرته لها . ومن قال بل كان في يوم حفصة قال : استكتمها لنفس الأمر . ثم إن حفصة رضي الله تعالى عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة وأخبرتها لتسرها بالأمر ولم تر في إفشائه إليه حرجا . فأوحى الله تعالى إلى نبيه ونزلت الآية . وهذا القول أصح الأقوال في سبب الآية . وقيل إن هذا كان سبب تظاهر حفصة وعائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن لا يدخل على نسائه شهرا حين طلبن منه النفقة {[10813]} . وقد اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمته أو أم ولده أو شيئا أحله الله تعالى له ما عدا الزوجة . فقالت طائفة لا يحرم عليه ذلك وعليه كفارة يمين ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي . وقال مالك والشافعي : لا يحرم عليه وليس عليه كفارة وأن التحريم في ذلك ليس بشيء . والحجة لهذا القول حديث عائشة أن الآية نزلت في شرب العسل ولم يذكر في ذلك كفارة . وحجة من أوجب الكفارة حديث زيد بن أسلم في تحريم الجارية . قال بعض رواته : كفر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التحريم وأصاب جاريته . قال جماعة فمن ذهب إلى هذا ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لا أطأها " . قال إسماعيل بن إسحاق : الحكم في ذلك واحد لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق بالتحريم فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب . ولعل القصتين قد كانتا جميعا في وقتين مختلفين غير أن أمر الجارية في هذه أشبه لقوله تعالى : { تبتغي مرضات أزواجك } ولقوله تعالى : { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } فكان ذلك في الأمة أشبه لأن الرجل يغشي أمته في ستر ولا يشرب العسل في ستر ولأن تحريم الأمة فيه مرضاة لهن . وقد اختلف في تكفير النبي صلى الله عليه وسلم . فقال بعضهم : حرم فأمر بالكفارة . وقال بعضهم : حرم وحلف فلذلك أمر بالكفارة ، وقد يمكن أن يكون حرمها وحلف {[10814]} وقد زعم بعض من رأى في تحريم الأمة كفارة يمين أن الزوجة مثل الأمة في ذلك وأن من حرم زوجته فعليه كفارة {[10815]} وزعم أيضا بعض من لا يرى في الأمة كفارة أنه لا كفارة أيضا في تحريم الزوجة ولا يلزم فيه شيء كما لا يلزم في الأمة ولا غيرها . قالوا إنما عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في التحريم للأمة . واختلف فيمن حرم زوجته اختلافا كثيرا حتى قالت طائفة إنه ليس بشيء . قالوا وإنما عاتب الله تعالى نبيه وذلك على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله : " قد حرمتها والله لا أطأها أبدا " . وقال مسروق : ما أبالي أحرمتها يعني الزوجة أو قصعة من ثريد . كذلك قال الشعبي : ليس التحريم بشيء قال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [ النحل : 116 ] وقال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } {[10816]} [ المائدة : 87 ] ومحرم زوجته مسمى حراما ما جعله الله تعالى حلالا . ومحرم ما أحل الله تعالى له . وقد مر الكلام على هذه المسألة وتحصيل الخلاف فيها مستوعبا فلا معنى لإعادته . وظاهر الآية يقتضي أن صيام الدهر مكروه لأن فاعل ذلك محرم على نفسه ما أحل الله تعالى له من أكل النهار وغيره من المباحات المفسدة للصوم . وقد اختلف فيمن حلف بصيام الدهر ، فقال مالك يصوم ما عاش . وقال ابن القاسم يصوم سنة . وقال أشهب يصوم ستة أشهر . وقال ابن حنبل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر . وقال الأوزاعي : لا شيء عليه لأن الله جل ثناؤه هو الدهر . وقال الشافعي وغيره من أهل العلم عليه كفارة يمين وكانوا يأخذون بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة يمين ما لم يكن فيه عتق أو طلاق {[10817]} وكان مالك رحمه الله تعالى رأى أن الصوم وإن كان مكروها لظاهر الآية فإنه من ألزم نفسه شيئا لزمه لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } {[10818]} [ المائدة : 1 ] .