قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } :
اختلف في السؤال عما هو ، فقيل عن حكم الأنفال ، وقيل إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها واحتجوا بما قرأه جماعة من الصحابة والتابعين {[8544]} { يسألونك عن الأنفال } . وقالوا : " عن " في القراءة المشهورة بمعنى " من " . واختلفوا أيضا في المراد بالأنفال فقيل الغنائم مجملة وهو قول ابن عباس {[8545]} وغيره وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم افترقوا ثلاث فرق . ففرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته{[8546]} . وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا . وفرقة اتبعت العدو فقتلت وأسرت . فلما اجتمع الناس رأت كل فرقة أنها أولى {[8547]} بالمغنم وساءت أخلاقهم في ذلك فنزلت الآية بأن الغنائم لله ولرسوله فكفوا فقسموها {[8548]} حينئذ بالسواء . وذكر ابن عباس أيضا في سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد قال {[8549]} قبل ذلك : " من قتل قتيلا أو أسر أسيرا فله كذا " فسارع الشباب وبقي الشيوخ عند الرايات ، فلما انجلت الحرب جاء الشباب يطلبون ما جعل لهم و نازعهم الشيوخ فنزلت الآية {[8550]} . ويحتمل عندي على هذا القول إما {[8551]} أن تكون الأنفال الغنائم جملة أو ما ينفله الإمام منها خاصة . ولكن المفسرين ساقوه على أن المراد بالأنفال الغنائم {[8552]} .
وقيل الأنفال في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه ، ويروى هذا القول عن ابن عباس أيضا . ويروى عن عبادة بن الصامت {[8553]} أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل أقواما يوم بدر ولم ينفل آخرين فاختلفوا بعد انقضاء الحرب ، فنزلت الآية . وقال ابن وهب نزلت في رجلين أصابا سيفا فاختصما فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما : " هو لي وليس لكما " . ويحتمل على هذين السببين أن تكون الأنفال في الآية ما ينفله الإمام أو جملة الغنائم . وقيل الأنفال ما يجيء به السرايا خاصة . وقيل الأنفال في الآية الخمس . قال مهاجرون {[8554]} لن {[8555]} يخرج منا هذا الخمس فقال الله تعالى هو : { لله وللرسول } . وقيل الأنفال في الآية ما شرد {[8556]} من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس العابر والعبد الابن ونحو ذلك {[8557]} هو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع ما شاء وكذلك الإمام يصنع به ما شاء {[8558]} وروي عن ابن عباس أيضا . وقيل الأنفال في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ولرسوله وروي هذا عن ابن عباس أيضا . وقيل الأنفال الأسارى {[8559]} . والذين ذهبوا إلى أن الأنفال الغنائم اختلفوا في الآية {[8560]} هل هي {[8561]} منسوخة أو محكمة . فذهب قوم إلى أنها منسوخة وأن الغنائم إنما كانت للرسول خاصة فعلى هذا فقوله تعالى : { لله } إنما جاء على جهة استفتاح الكلام . واللام في قوله : { للرسول } يحتمل أن تكون {[8562]} ملكا له يصنع فيها ما يشاء ويحتمل أن لا يكون لام الملك وإنما {[8563]} يريد أنه متوليها حتى يضعها حيث يشاء . قال بعضهم وأراد الله تعالى بجعله ذلك إليه {[8564]} صلى الله عليه وسلم ثم نسخ بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية [ الأنفال : 41 ] وهو قول ابن عباس وغيره {[8565]} .
وذهب قوم إلى أنها محكمة وإنما أخبر الله تعالى أن الغنائم لله من حيث هي رزقه وملكه ، وللرسول من حيث هو المبين حكم الله فيها .
ولا شك في أن جميع الأشياء لله وللرسول . ونزل حكم القسمة خلاف {[8566]} ذلك فلا نسخ في الآية {[8567]} والنفل في لسان العرب هو الزيادة على الواجب كذا قال بعضهم {[8568]} . وقيل النفل العطية ومنه قول الشاعر :
إن تقوى ربنا خير نفل{[8569]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأظهر من الأنفال على هذا أنها ما يعطي الإمام للرجل من الغنيمة تحريضا له على الجهاد أو جزاء على فعل فعله ويحتمل أن تسمى الغنيمة أيضا نفلا لأن الغنائم لم تكن مباحة من قبل فكانت كأنها عطية زائدة من الله تعالى . وقد روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم تحل الغنيمة لقوم سود الرؤوس من قبلكم كانت تنزل نار من السماء فتأكلها فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم فأنزل الله تعالى : { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( 68 ) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } " {[8570]} .
وقد اختلف هل للإمام أن ينفل شيئا من الغنيمة لمن رآه أهلا لذلك أم لا . فقالت فرقة لا نفل بعد النبي وكأنهم يرون قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } على القول بأن الأنفال ما ينفله الإمام على ظاهره أي إنما ذلك لله وللرسول خاصة ليس لغيرهما . والجمهور على أن النفل باق إلى يوم القيامة وأن الأئمة كالرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك وأن الله تعالى لم يرد قصرها على ذلك التأويل على الرسول خاصة {[8571]} بل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم {[8572]} ولكل إمام . ثم اختلفوا ، فقيل لا ينفل إلا من الخمس لأنه هو المصروف إلى اجتهاد الإمام والأربعة الأخماس إنما هي للغانمين وهو مذهب مالك . وقيل إنه{[8573]} لا ينفل إلا بعد الخمس من الأربعة الأخماس لأن الله تعالى قد صرف {[8574]} الخمس إلى المذكورين في الآية بعد فلا يخرج عنهم منه شيء وهو قول الأوزاعي وغيره . وقيل ينفل من جملة الغنيمة قبل الخمس وهو قول الشافعي وابن حنبل . وقيل ينفل الإمام متى شاء قبل الخمس أو بعده وهو قول النخعي . ومن حجة هذين القولين قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } ولم يخصص قبل خمس أو بعد خمس {[8575]} .
وقيل {[8576]} لا ينفل الإمام إلا من خمس الخمس وهو قول ضعيف . واختلفوا هل يكون النفل قبل الغنيمة فكرهه مالك رحمه الله تعالى ، وقالت فرقة إنما ينفل الإمام قبل الغنيمة وأما إذا جمعت {[8577]} الغنائم فلا نفل . وتصوير النفل قبل الغنيمة أن يقول الإمام من فعل كذا فله كذا ، ومن قتل قتيلا فله سلبه ، ويقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا ومن حجة من لم يكره {[8578]} ذلك عموم قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } على {[8579]} التأويل الذي ذكرناه . وحجة مالك أنه لا يسمى أنفالا إلا ما قد تعين ونفل . وإذا لم يتعين بعد فليس بنفل مع المخافة {[8580]} على فساد النيات وقد قال تعالى : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } [ الأنفال : 67 ] وقال تعالى : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } [ آل عمران : 152 ] واختلفوا في الذي ينفله الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا ونحو ذلك {[8581]} .