1 قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } :
اختلف في تأويل العقود :
فقيل : هي العهود التي عاهد عليها بعضهم بعضا في الجاهلية من النصرة والمؤازرة ، أمروا أن يوفوا بها في الإسلام ، وذلك إذا لم يكن في الوفاء بها معصية .
وذكر أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن{[4953]} حلف الجاهلية ، فقال : " لعلك تسأل عن حلف لخم{[4954]} وتيم الله " ، قال{[4955]} : نعم يا نبي الله قال{[4956]} : " لا يزيده{[4957]} الإسلام إلا شدة " {[4958]} .
وقيل : هي ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء وطلاق ومناكحة ومواعدة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير ، وغير ذلك من الأمور مما كان غير{[4959]} خارج عن الجنائز في الشريعة . وكذلك ما عقده على نفسه لله عز وجل من الطاعات كالحج ، والصيام ، والاعتكاف ، والقيام ، وما أشبه ذلك من طاعات{[4960]} ملة الإسلام .
وقيل : نزلت الآية في أهل الكتاب ، أمروا أن يوفوا بما أخذ عليهم من الميثاق في{[4961]} تصديق النبي صلى الله عليه وسلم . وقد كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران .
وقيل : { أوفوا بالعقود } معناه : بما أحل الله تعالى{[4962]} وبما حرم وبما فرض وبما حد من جميع الأشياء ، ووجه القول{[4963]} في هذا أن العقود تنقسم إلى{[4964]} ثلاثة أقسام : منها ما عقده الله تعالى على عبيده ، ومنها ما عقده المرء{[4965]} على نفسه ، ومنها ما عقده المرء بينه وبين غيره .
ثم هي منقسمة على خمسة أقسام{[4966]} : منها ما يجوز{[4967]} الوفاء به . ومنها ما لا يجوز الوفاء به ، ومنها ما يخير المرء في الوفاء به{[4968]} ومنها ما يستحب الوفاء به{[4969]} .
ولفظ العقود يقع على ذلك كله ، فهل{[4970]} هو من قبيل المجمل الذي لا يجوز التمسك به حتى يدل دليل على{[4971]} المراد به{[4972]} ، أو من قبيل العام الذي يجوز التمسك به في آحاد المسائل حتى يرد مخصص ؟
فقيل{[4973]} : هو من قبيل المجمل ؛ كقوله تعالى : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] ، لا يجوز الاحتجاج به{[4974]} في{[4975]} وجوب الوتر ونحو ذلك .
وقيل : هو عام ، فيجب أن تحمل الآية على عمومها في كل ما يقع عليه اسم عقد من النذور{[4976]} والأيمان وغير ذلك إلا ما خصصه الشرع ، فإذا قلنا بذلك{[4977]} فمن هذه الأشياء ما اتفق عليه{[4978]} ، ومنها ما اختلف فيه ؛ فمن ذلك النذور{[4979]} اتفق على لزوم الوفاء بنذر طاعة شكرا{[4980]} لله عز وجل إن كان كذا وكذا فلا خلاف أن هذا داخل تحت عموم قوله تعالى{[4981]} : { وأوفوا بالعقود } .
واختلف في النذر المطلق الذي ليس معلقا بصفة ، وفي النذر الخارج مخرج اليمين ، وفي النذر في حال اللجاج والغضب ، هل يلزم أم لا ؟ فعندنا{[4982]} أنه يلزم لعموم{[4983]} قوله تعالى{[4984]} : { أوفوا بالعقود } ، وهذه عقود لا شك فيها .
واختلف في المذهب إذا قال : " لله{[4985]} علي أن أفعل كذا وكذا ، وأن لا أفعل كذا " ، لقربة{[4986]} من القرب ، ولم يأت بلفظ النذر هل يلزم أم لا ؟ فعندنا فيه قولان : و{[4987]} الصحيح لزومه ؛ لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } ، ومن ذلك نذر فعل مباح . اختلف فيه :
فقال ابن حنبل{[4988]} : إن فعله لم يكن عليه شيء وإن لم يفعله فعليه كفارة ، وعندنا أنه لا يلزمه فعله ولا عليه في تركه كفارة ؛ لأن النذر الذي يلزم الوفاء به هو الذي فيه قربة ، وهذا لا قربة فيه .
واختلف في الذي ينذر في الجاهلية نذرا مما يوجبه المسلمون لله تعالى{[4989]} ، ثم أسلم .
فقال الشافعي : واجب{[4990]} عليه الوفاء بنذره ومن حجته عموم الآية كما قدمناه وقال مالك : إنه{[4991]} لا يجب الوفاء به .
ومن ذلك الأيمان{[4992]} اتفق على وجوب{[4993]} الوفاء باليمين التي يعقدها الإنسان على نفسه باسم من أسماء الله عز وجل ، فلا{[4994]} خلاف أن هذا{[4995]} داخل تحت قوله تعالى : { أوفوا بالعقود } ، فإن حنث فيها فكفارتها ما ذكره{[4996]} الله تعالى في كتابه ، وسيأتي الكلام عليه . واختلف في لزوم الوفاء باليمين التي يعقدها الإنسان على نفسه بطاعة من الطاعات كالعتق والمشي إلى مكة والصدقة بالمال ، ونحو ذلك .
فمنهم من لم يلزم شيئا{[4997]} من ذلك باليمين{[4998]} ، ولم ير فيه{[4999]} إلا كفارة يمين{[5000]} . ومنهم من لم يلزم شيئا من ذلك ولا أوجب فيه كفارة يمين{[5001]} . ومنهم من ألزم العتق ولا يلزم سائر الطاعات . ومنهم من ألزم الحالف{[5002]} بشيء من الطاعات الوفاء بها ، وهو أصل مذهب مالك ، وشذت له{[5003]} مسائل عن هذا الأصل{[5004]} يجب ردها إليه . وحجتنا{[5005]} على هذا القول عموم الآية أي{[5006]} قوله تعالى : { وأوفوا بالعقود } ، وهذه{[5007]} كلها عقود لا شك فيها ، فيجب الوفاء بها ، وهذا كله فيما لله تعالى فيه طاعة ، فأما ما ليس فيه طاعة فلا يجب به ، إلا أنه{[5008]} اختلف في الطلاق إذا خرج مخرج اليمين هل يلزم أم لا ؟ وذلك ليس مما لله{[5009]} فيه طاعة . فالجمهور{[5010]} على أنه يلزم{[5011]} ، وذهب بعضهم إلى أنه لا يلزم .
ومن حجة الجمهور عموم الآية ، ومن ذلك الهبة والصدقة اختلف{[5012]} في جواز الرجوع فيها للأجنبي{[5013]} ما لم يقبضها ، فأجازه الشافعي وأبو حنيفة مطلقا{[5014]} ، وأجازه بعضهم في الهبة{[5015]} ولم يجزه في الصدقة ، وهذا{[5016]} أحد قولي الشافعي ، ولم يجزه مالك في واحد منها ، والحجة له رحمة الله تعالى{[5017]} عموم{[5018]} قوله تعالى : { أوفوا بالعقود } . والعقد هو الإيجاب والقبول وهو موجود في مسألتنا ، فالوفاء به واجب{[5019]} . واختلف فيما وهبه الأب لابنه هل له الرجوع فيه ، وإن قبضه الابن ، أم لا{[5020]} ؟ فقال مالك : له ذلك ، وبه قال الشافعي على خلاف له{[5021]} ، ولمالك في الجد وعلى خلاف لمالك في الأم والجدة .
وقال أبو حنيفة : لا رجوع للأب ولا لذي رحم محرم فيما وهبه ، وأجاز{[5022]} الرجوع للأجنبي .
وحجة مالك ومن قال بقوله ما روي عن{[5023]} ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يحل لأحد أن{[5024]} يعطي عطية فيرجع إلا الوالد فيما يعطي ولده " {[5025]} ، وهو حديث صحيح ، وهو نص في مسألة{[5026]} الأجنبي ، فالوالد مخصص{[5027]} لعموم الآية .
ومن ذلك الشروط المشترطة في النكاح التي لا تفسده ولا يقترن بها{[5028]} تمليك ولا عتق ولا حظ من الصداق : فعند مالك رحمه الله{[5029]} أنها تلزم ، و{[5030]} عند ابن شهاب{[5031]} وغيره{[5032]} أنها تلزم{[5033]} من{[5034]} التزمها ، فمن ألزمها{[5035]} رآها داخلة تحت لفظ العقود ، ومن لم يلزمها خصصها من ذلك باعتبار ما فيه قربة . ومن حجة ابن شهاب وغيره قوله عليه الصلاة والسلام{[5036]} : " المسلمون عند شروطهم " {[5037]} ، وقوله عليه الصلاة والسلام{[5038]} " أحق الشروط أن توفوا به{[5039]} ما استحللتم به الفروج " {[5040]} .
القول في هذه الآية أشعر أو لم يشعر وهو قول الشافعي ، ومن حجته{[5041]} الآية على هذا التأويل ، وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " {[5042]} .
ومالك يقول : إن اشعر جاز أكله إذا{[5043]} خرج ميتا ولا يحتاج إلى ذكاة{[5044]} ، وعلى هذا يتأول هذا التأويل في الآية والحديث ، وأبو حنيفة لا يجيز أكله إلا أن يخرج حيا فيذكى والحجة عليه ما قدمناه من الحديث والآية . والأحسن{[5045]} أن يقال : إنه أراد ببهيمة الأنعام الوحش ، فأراد الله تعالى أن يعلمنا بأنها{[5046]} تحل لنا كما تحل الأنعام ، ولذلك سماها بهيمة الأنعام ، فتكون على هذا القول الأنعام{[5047]} داخلة في التحليل لأن مضمون الآية التسوية بينهما في التحليل ، فمن جعل بهيمة الأنعام في الآية الجنين لم يحتج إلى إضمار الذكاة في الآية . ومن جعلها الوحش أو الماشية{[5048]} كما قدمنا احتاج في الآية إلى تقدير الذكاة ؛ لأن أكلها لا يجوز إلا بذكاة كأنه قال : أحلت لكم ذكية{[5049]} بهيمة الأنعام ونحو ذلك . وهذا{[5050]} اللفظ مما يختلف فيه{[5051]} أكثر الأصوليين{[5052]} وهو قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ، فمنهم من يقول : هو مجمل إذ لا يدرى من هذا اللفظ ما أحل منها هل الركوب أو الأكل أو البيع{[5053]} أو غير ذلك ، فيجب الوقف حتى يتبين المراد بذلك . ومنهم من يقول : هو على{[5054]} العموم في جميع الأشياء إلا أن بخصّص منها شيء . والحذاق منهم يزعمون أن هذا{[5055]} نص على أنه إنما أراد{[5056]} الأكل من جميع تلك الأشياء ، قالوا : إلا أن هذا لا يقتضيه وضع اللفظ ، وإنما يقتضيه عرف الاستعمال . واختلف في أكل الجلالة ، فعندنا فيه الكراهية{[5057]} ، وحرّمه ابن حنبل .
واختلف أيضا في ألبانها وأبوالها وأعراقها على ثلاثة أقوال في المذهب : الطهارة والنجاسة والفرق بين الأبوال وبين{[5058]} غيرها . والحجة لمن لا يحرم أكل الجلالة ولا شرب{[5059]} ألبانها قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } يريد أكلها فعم ولم يخصص{[5060]} جلالة من غيرها . وقوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } دليل خطابه{[5061]} أن ما ليس من بهيمة الأنعام فلم يحل{[5062]} إلا أن دليل الخطاب في القول به اختلاف . ومن يقول به تركه{[5063]} في بعض الأحوال لما يقتضي ذلك{[5064]} عنده ، وسيأتي الكلام إن شاء الله{[5065]} على ما يتعلق بما أشرنا إليه . وقد اختلف في لحم القرد ، فكرهته{[5066]} طائفة . وقالت طائفة . أكله جائز ، واحتجوا بقوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } {[5067]} .
وقوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } :
قيل : أراد{[5068]} ما تلى{[5069]} في قوله بعد{[5070]} هذا{[5071]} : { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] {[5072]} الآية ، وقيل : أراد الدم المسفوح من المذكاة{[5073]} .
قوله تعالى : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } :
استثناء بعد استثناء ، فاستثنى{[5074]} تعالى أولا نوعا من المأكول فلم يجزه ، ثم استثنى نوعا من المخاطبين فلم يجز لهم الصيد ، وكأنه تعالى يقول إذا{[5075]} أحللنا لكم بهيمة الأنعام فلا تستحلوا أنتم الصيد وأنتم حرم ، أي محرمون بحج أو عمرة كذا قال بعضهم ، وعندي أن معناه : محرمون بحج أو عمرة أو داخلون في الحرم . ثم قال تعالى : { إن الله يحكم ما يريد } ، أي يحلل ما شاء ويحرم ما شاء .
وهذه الآية قد تضمّنت خمسة أحكام : الأول : الوفاء بالعقود والثاني : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ، والثالث : { إلا ما يتلى عليكم } ، والرابع : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } ، والخامس : ما دلت عليه{[5076]} الآية من إباحة الصيد للحلال ، وهذا من أعظم الفصاحة . وحكي أن أصحاب الكندي{[5077]} ، قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل القرآن . فقال : نعم أعمل مثل{[5078]} بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ، ثم خرج فقال : " والله ما أقدر{[5079]} ، ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت لي سورة{[5080]} المائدة فنظرت ، فإذا هو قد أمر بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثل{[5081]} هذا إلا في أجلاد " . وقال بعضهم : يؤخذ من قوله : { أوفوا بالعقود } ، { أحلت لكم بهيمة الأنعام } أن الكفار محظور عليهم ذبيح{[5082]} الأنعام ؛ لأنه تعالى إنما أباح الأنعام مجازاة{[5083]} عن{[5084]} الوفاء{[5085]} بالعقود ، قالوا{[5086]} : وذبيح الأنعام{[5087]} إنما عرفت{[5088]} إباحته بشرع{[5089]} نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم{[5090]} . وإذا أثبت ذلك فلا يباح{[5091]} ذبح البهائم{[5092]} للكفار وإن كانوا أهل الكتاب . وهذا بعيد لأنه لو لم يكن{[5093]} ذبح البهائم مباحا لهم{[5094]} ما جاز للمسلمين أكل{[5095]} ذبائح أهل الكتاب . ويمكن أن يقال على هذا بأنه محرم عليهم الذبح ، ولكنهم{[5096]} إذا ذبحوا أكلت ذبائحهم .