2 - قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } :
اختلف{[5097]} في الشعائر{[5098]} ما هي : فقيل : هي{[5099]} حرم الله تعالى{[5100]} وقيل : مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون{[5101]} ويعظمون شعائر الله{[5102]} ، فأراد المسلمون أن{[5103]} يغيروا عليهم ، فقال تعالى : ( لا تحلوا شعائر الله ) وهو قول ابن عباس . وقيل : هي{[5104]} ما حد{[5105]} تحريمه في الإحرام وهو قول ابن عباس أيضا . وقيل : كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر{[5106]} وكانت قريش لا تقف{[5107]} بعرفات فنهوا{[5108]} بهذه الآية .
وقيل : شعائر الله جميع ما أمر الله تعالى{[5109]} به و{[5110]} نهى عنه . وقيل : الشعائر ست : الصفا ، والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن . وقيل : شعائر الله : الصفا ، والمروة ، والحرم ، والمعنى : لا تحلوا الصيد في الحرم . واصل الشعائر من أشعرت الشيء ، إذا أعلمته{[5111]} وهي جمع{[5112]} شعيرة ، وهي المعلم{[5113]} . واختلف في الشهر الحرام ما المراد به فقيل : هو اسم مفرد يدل على الجنس من جميع الأشهر الحرام ، فكأنه تعالى{[5114]} قال : ولا الأشهر الحرم{[5115]} ، وهذا قول ابن عباس ، وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم{[5116]} ، ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان . وإنا أضيف{[5117]} إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه ، وتزيل فيه السلاح ، وتنزع الأسنة من الرماح . وتسميه{[5118]} . منصل الأسنة ، ومنصل الأول ، وتسميه{[5119]} الأصم ، لأنه كان لا يسمع فيه صوت سلاح . وكانت العرب مجمعة على تحريم ذي القعدة ، وذي الحجة ، ومحرم . وقيل : كانت ربيعة بأسرها تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعا منها ، وكانت قريش ومن تابعها من مضر على الحق ، فأقر{[5120]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك{[5121]} . وكانت العرب تطول عليها الحرمة{[5122]} وتمنع من الغارات ثلاثة أشهر ، فلذلك اتخذت النسيء{[5123]} وذلك أن يحل{[5124]} لها مثل نعيم ابن ثعلبة{[5125]} المحرم من هذه الشهور ، ويحرم{[5126]} صفرا{[5127]} ثم كذلك في سائر الأشهر الحرم ، فنهى الله تعالى عن ذلك بقوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر } [ التوبة : 37 ] ، وجعل المحرم أول الشهور{[5128]} من حيث كان الحج والموسم غاية العام{[5129]} ، ولذلك دون به{[5130]} عمر ابن الخطاب رضي الله عنه{[5131]} الدواوين ، فمعنى الآية لا تحلوا هذه الأشهر بقتال ولا غارة{[5132]} ولا تغيير ، فإن ذلك استحلال لحرمتها{[5133]} . وقيل : الشهر الحرام في هذه الآية رجب ، وإنما خصصه الله تعالى بالذكر{[5134]} تشريفا{[5135]} لأمره ، لأنه كان مختصا بقريش ، ثم فشا{[5136]} في سائر مضر ، ويدل على هذا قول الأحوص{[5137]} :
وشهر بني أمية والهدايا *** إذا حبست مضرجها الدماء{[5138]}
وإنما نسبه إلى بني أمية لأنها من قريش ، فخصص تعالى{[5139]} هذا الشهر تأكيدا له ، إذ لم تكن العرب مجمعة عليه . وقيل : الشهر الحرام في هذه الآية ذو القعدة ، من حيث كان أولها ، كذا قال بعضهم ، فالمعنى في هذه الآية{[5140]} على الأقوال{[5141]} كلها النهي عن استحلال هذه الشهور بالقتال فيها والتغيير لحالها{[5142]} . وأما{[5143]} الهدي{[5144]} فهو{[5145]} ما أهدي إلي البيت من النعم وقصدت به القربة ، فأمر الله تعالى أن لا يستحل ولا يغار عليه . وقيل : الهدي ما يتقرب{[5146]} به من{[5147]} الأنعام ومن سائر المتمولات{[5148]} على هذا اختلف فيمن نذر هديا ، فقال مالك : لا يكون إلا من النعم . وقال الشافعي : يكون من كل ما يتمول ، وهو قوله القديم . والصحيح ما ذهب إليه مالك ، لأن عرف الشرع خصص الهدي بالنعم فقال تعالى{[5149]} : { هديا بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ، وقال{[5150]} : { فما استيسر من الهدي } [ البقرة : 196 ] ، فوجب حمل النذر على عرف الشرع ، وإن كان من حيث{[5151]} اللغة لا يمتنع أن يقع على سائر المتمولات اسم الهدي . وقد قال عليه الصلاة والسلام{[5152]} في ساعات الجمعة : " كالمهدي بدنة " إلى أن قال : " كالمهدي بيضة " {[5153]} فسمى البيضة هديا .
و{[5154]} قد قالت العلماء : إذا قال الرجل لو في هديا{[5155]} أن عليه أن يتصدق به . وقال بعضهم : وتدل الآية على تحريم الأكل من الهدي ما كان ، وبه{[5156]} قال الشافعي خلافا لمالك في إجازته الأكل من هدي التمتع والقران خاصة . ودليل مالك قوله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا } [ الحج : 28 ] ، الخ{[5157]} وقوله{[5158]} تعالى{[5159]} : { فإذا{[5160]} وجبت جنوبها فكلوا منها } [ الحج : 36 ] .
واختلف في القلائد{[5161]} فقيل : هي{[5162]} الهدي المقلد ، وأن الهدي إنما يسمى هديا إذا لم{[5163]} يقلد{[5164]} فكأنه قال : ولا الهدي الذي لم يقلد ولا المقلد .
ويحتمل أن{[5165]} يريد بالهدي مقلد الهدي{[5166]} وغير مقلده ، ثم خصص المقلد منها تأكيدا لأمره وحرمته ، وقول{[5167]} ابن عباس محتمل لهذين{[5168]} القولين{[5169]} ، وكلاهما متأول{[5170]} عليه . وقيل : القلائد ما كان الناس يتقلدون منه{[5171]} لهم . قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية- إذا خرج يريد الحج- يقلد{[5172]} من السمر{[5173]} قلادة فلا يتعرض له أحد بسوء ، إذ{[5174]} كانت تلك علامة إحرامه وحجه . وقال عطاء : بل كانوا إذا خرجوا من الحرم{[5175]} في حوائج لهم تقلدوا{[5176]} من شجره ، و{[5177]} من لحائه{[5178]} فيدل ذلك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك : فنهى الله تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من ذلك . وقيل : القلائد ما تقلده الهدايا من شجر الحرم ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يستحلوا أخذها من شجر الحرم{[5179]} كفعل الجاهلية . والآمون{[5180]} البيت الحرام هم الكفار الذين يأتون البيت حجاجا ، نهى الله تعالى أن يستحلوا- فيغار عليهم- بهذه الآية . واختلف في المنسوخ من هذه{[5181]} الآية ، فقيل : كل ما فيها من نهى عن مشرك أو مراعاة{[5182]} حرمة له بقلادة أو نحو ذلك فهو منسوخ بآية السيف ، قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وكذلك ما في قوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } من{[5183]} إباحة دخول المشركين البيت ، قال ابن عباس : إنه{[5184]} منسوخ بقوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام } {[5185]} [ التوبة : 28 ] ، وبقوله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله } الآية{[5186]} ، [ التوبة : 18 ] ، وقال مجاهد : لم ينسخ منها إلا القلائد كان الرجل يتقلد بالشيء من لحاء العرب{[5187]} فلا يقرب ، فنسخ ذلك يريد بقوله{[5188]} : عز وجل : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وقال الطبري : الصحيح{[5189]} أن المنسوخ قوله : { ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } ؛ لإجماعهم على أن قتال أهل{[5190]} الشرك في الشهر الحرام وغيره{[5191]} جائز ، وكذلك المشرك{[5192]} لو تقلد ما تقلد ولم تكن له ذمة مأمور بقتله في{[5193]} قوله{[5194]} تعالى : { فاقتلوا{[5195]} المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وهذا الذي قاله فيه نظر لأنه قد اختلف الناس في المائدة وبراءة أيهما{[5196]} نزلت قبل صاحبتها وإذا لم{[5197]} يقطع بالمتأخرة منهما{[5198]} لم يصح النسخ .
ووجه القول في هذه الآية أن{[5199]} شعائر الله تعالى{[5200]} محارمه وحدوده ، وأنه{[5201]} لا يصح بحال{[5202]} أن يستحل ما حرم الله تعالى{[5203]} منها .
وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } :
لا خلاف في جواز القتال فيه وأنه صار حلالا بعد أن كان حراما لكن بقيت حرمة الشهر في نفسه محرمة ، وكذلك حرمة الهدي والقلائد باقية يوم القيامة {[5204]} لكنها{[5205]} ، لا{[5206]} تعصم أحدا ممن وجب عليه قتل أو حد .
قوله{[5207]} تعالى{[5208]} : { ولا آمين البيت الحرام } :
هذا{[5209]} اللفظ عام للمؤمن{[5210]} والمشرك خص منه{[5211]} المشرك{[5212]} فأبيح قتله ، أو وجب على حسب حاله . وبقي عموم اللفظ في حق المؤمن . واختلف في سبب الآية : فقال أكثرهم : إنها نزلت في حق الحطم بن هند البكري أخي بني ربيعة{[5213]} وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه : " يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان " {[5214]} ، فجاء الحطم فخلف خيله خارج المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام{[5215]} عليه{[5216]} ودعاه إلى الله تعالى : قال : انظر{[5217]} ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاور وخرج{[5218]} ، فقال النبي{[5219]} صلى الله عليه وسلم : " دخل{[5220]} بوجه كافر وخرج بعقب غادر " ، فمر بسرح من المدينة{[5221]} فساقه وانطلق به يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم *** باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين خفاق القدم{[5222]} {[5223]}
ثم أقبل الحطم في عام آخر حاجا{[5224]} وساق الهدي فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، وخف إليه أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية نهيا عن الحجاج أن يقطع سبيلهم{[5225]} . وروي أن الآية نزلت عام الفتح ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم{[5226]} بمكة إذ جاء ناس من المشركين يحجون ويعتمرون ، فقال المسلمون : يا رسول الله إن هؤلاء المشركون ، فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن : { ولا آمين البيت الحرام } .
وقوله تعالى : { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } :
قيل{[5227]} : الربح{[5228]} ، وقيل : الأجر والتجارة ، وقيل : الفضل والتجارة ، والرضوان الحج . واستدل بعضهم بهذه الآية على جواز دخول مكة بلا{[5229]} إحرام إلا في الحج خاصة ، وهو قول الشافعي خلافا لمالك رحمه الله{[5230]} في أن ذلك لا يجوز إلا{[5231]} للمترددين على مكة كالحطابين وأصحاب الفواكه .
قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } :
أمره{[5232]} تعالى هنا بالصيد أمر إباحة بإجماع ، وقد اختلف أهل الأصول الذين يقولون : الأمر للوجوب{[5233]} في الأمر إذا ورد{[5234]} بعد الحظر هل هو كما لو ورد ابتداء أم يؤثر فيه تقدم الحظر عليه فلا يكون إلا للإباحة ؟ ومن يقول بتأثير الحظر يحتج بهذه الآية . ولا حجة في ذلك{[5235]} لأن ما{[5236]} اقترن بهذا الأمر من القرائن دل{[5237]} على أنه على الإباحة وإنما كلامنا فيما لم تقترن به قرينة{[5238]} . ونص هذه الآية إباحة الصيد لغير المحرم . ودليل خطابها منعه للمحرم{[5239]} فأما إباحته لغير المحرم فلا خلاف فيه ، إذ اصطياده {[5240]} لحاجة إليه . وأما للهو فاختلف فيه فكرهه مالك ، وأباحه محمد{[5241]} لعموم قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } . وأما اصطياد المحرم فلا أعرف خلافا في منعه ، كما دلت عليه الآية .
وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } :
قوله : { ولا يجرمنكم شنئان } {[5242]} ، قيل : معناها لا يحملنكم ، وقيل : لا يكسبنكم وقيل : لا يحنقنكم{[5243]} . وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة ؟ فذهب مجاهد إلى أنها محكمة ، وأنها نزلت في النهي عن{[5244]} الطلب بدخول الجاهلية إن أراد قوم من المؤمنين ذلك ، وقد قتل{[5245]} بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل . وقد{[5246]} قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من{[5247]} قتل بدخل من الجاهلية " ، وقيل : المعنى لا يكسبنكم شنئان قوم ، أي بغضهم أن تعتدوا فيهم الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الظلم . قال عليه الصلاة والسلام{[5248]} : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " {[5249]} ، وفيه دليل{[5250]} على{[5251]} أنه يجوز مقابلة الظلم بما يجوز أن يكون عقوبة له ، وقد أذن الشرع في ذلك . وقيل : الآية منسوخة والذين قالوا ذلك اختلفوا في سببها فقال بعضهم : نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطلبوا على قريش وألفافها{[5252]} من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك{[5253]} بغضاء{[5254]} في قلوب المؤمنين للكفار{[5255]} . فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان : { ولا يجرمنكم } {[5256]} أي{[5257]} : لا يحملنكم{[5258]} على{[5259]} البغض من أجل{[5260]} أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم . وقال بعضهم : نزلت عام الحديبية لأنه لما صد المسلمون عن البيت ، مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا : نصد هؤلاء كما صدنا{[5261]} أصحابهم{[5262]} فنزلت الآية . وقيل إنها نزلت في رجل من ربيعة يقال له الحطم بن هند وهو المتقدم الذكر{[5263]} أتى حاجا وقد قلد فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إليه فنهوا عن ذلك وقال بعضهم : كان اسمه{[5264]} ضبيعة بن شرحبيل البكري ، وهذه الأقوال في سبب الآية تدل كلها على مراعاة حرمة الكفار وترك قتالهم .
قال ابن زيد{[5265]} : وهذا منسوخ بالجهاد ، وذهب إلى{[5266]} أنه لما جاز قتال المشركين جاز أن يعتدي عليهم . وقد اختلف هل يجوز للرجل أن يؤجر نفسه أو داره أو{[5267]} دابته أو غلامه في شيء من عمل الخمر ؟ فمنعه مالك ومن تابعه وأجازه أبو حنيفة ، ودليلنا عليه قوله وتعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }{[5268]} ، وهذا منه .
وكذلك اختلف هل يجوز أن يبيع الرجل كرمه لمن{[5269]} يعصره خمرا ؟ والحجة لمن منعه ما ذكرنا ، وكذلك اختلف هل يجوز بيع سكين أو سيف لمن{[5270]} يعلم أنه يقتل به رجلا أم لا ؟ .