3 - قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير . . . } {[5271]} إلى قوله : { يسألونك{[5272]} ماذا أحل لهم } :
هذه الأشياء التي حرمها{[5273]} الله تعالى على ثلاثة أقسام : منها ما حرمه لعدم الذكاة وهي الميتة وحدها أو الميتة{[5274]} والمنخنقة وأخواتها ، على ما يأتي من الخلاف في ذلك .
ومنها : ما حرمه لوصم{[5275]} من الذكاة ، وهي{[5276]} ما أهل به لغير الله ، وما ذبح على النصب . ومنها ما حرم لعينه لا لعدم الذكاة ولا لوصم فيها{[5277]} وهو الدم ولحم الخنزير ، ولا بد من إفراد الكلام على كل لفظة من ألفاظ هذه الآية ، فإنها تتضمن أحكاما كثيرة .
فأما الميتة ، فالمراد بها ما مات حتف أنفه إلا أنها على قسمين : فقسم اتفق على تحريمه بالآية ، وهو كل{[5278]} حيوان برّي له نفس سائلة مات حتف أنفه . وقسم اختلف في تحريمه على حسب الاختلاف في لفظ الآية هل يحمل{[5279]} عليه أم لا ؟ فمن ذلك ميت صيد البحر إذا لم تكن له حياة في البر فمات بغير {[5280]} ذكاة ، فأجازه الأكثر ورآه مخصصا من عموم الآية . ولم يجزه أبو حنيفة وقد مضى الكلام على ذلك في سورة البقرة . ومن ذلك أيضا ميت حيوان البر إذا لم تكن له نفس سائلة ومات من غير شيء{[5281]} صنع به{[5282]} . اختلف فيه أيضا على قولين ، وحجة من لم يحله{[5283]} عموم الآية . وقد مر الكلام على عظام الميتة وجلودها وشعرها في سورة البقرة . وكانت العرب تحل أكل الميتة ، ولذلك نزلت فيها الآية . وأما الدم الذي حرمه{[5284]} الله تعالى{[5285]} في هذه الآية من غير تفصيل فيقتضي جميع الدماء مسفوحها وغير{[5286]} مسفوحها{[5287]} إلا أنه قد جاء في آية الأنعام تحريم الدم مقيدا بالمسفوح ، فقال ابن شعبان{[5288]} : قوله تعالى : { أو دما مسفوحا } [ الأنعام : 145 ] ، ناسخ لقوله : { حرمت عليكم الميتة والدم } . وهذا منه غلط ، لأن الأنعام مكية والمائدة مدنية ، والمكي لا ينسخ المدني باتفاق . والذي ينبغي أن يقال في الآيتين أنه{[5289]} يحتمل{[5290]} أن تكون الآية المطلقة محمولة على المقيدة ، وهو مذهب أكثر الأصوليين ، فلا يكون محرما بالآية إلا المسفوح ويحتمل أن لا {[5291]} يحمل عليها ، فتحمل المطلقة على عمومها على قول من يقول بالعموم ، فيقتضي تحريم المسفوح وغير المسفوح ؟ إلا أن يخصص منها شيء بدليل آخر . ويكون تعالى قد خصص المسفوح بالذكر في آية أخرى تأكيدا لأمره ، وإلى نحو هذا يذهب من لا يرى حمل{[5292]} المطلق على المقيد{[5293]} وكذلك الكثير من غير المسفوح{[5294]} للآية المطلقة .
واختلف في اليسير مما عدا المسفوح ، فقال مالك مرة : الدم كله نجس دم بني آدم والبهائم كلها ودم الحوت والبراغيث ، وإذا كان عنده نجسا فهو حرام . وحجة هذا القول عموم آية{[5295]} قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم } ، فلم يخص مسفوحا من غيره . و قال أيضا : لا تعاد الصلاة من الدم اليسير ، قال عز وجل : { أو دما مسفوحا } [ الأنعام : 145 ] ، وقال : محمد بن مسلمة{[5296]} : المحرم المسفوح ، قال{[5297]} : وقد جاء عن عائشة أنها قالت : " لولا أن الله سبحانه وتعالى{[5298]} قال : { أو دما مسفوحا } لاتبع المسلمون ما في العروق كما اتبعه اليهود " . وقد تطبخ البرمة وفيها الصفرة ، ويكون في اللحم الدم{[5299]} فلا يكون على الناس غسله ، قال : ولو كان قليله ككثيره لكان كبعض النجاسات تقع في الطعام فلا يؤكل . وقد اختلف في الشاة إذا قطعت وظهر الدم في اللحم ، فقال مالك{[5300]} مرة{[5301]} : حرام ، وجعل الإباحة فيه{[5302]} ما{[5303]} يظهر لأن اتباعه من العروق حرج . وقال مرة : حلال لقوله سبحانه : { أو دما مسفوحا } [ الأنعام : 145 ] . واختلف في دم ما لا يحتاج إلى ذكاة{[5304]} وهو الحوت ، فالمشهور عن مالك أنه نجس حرام ، وقال أبو الحسن القابسي{[5305]} : ليس بنجس ، وحمل قول مالك في غسله على الاستحسان{[5306]} فعلى ذلك يكون حلالا{[5307]} . والقول الأول أحسن ؛ لأن الحوت كالمذكى{[5308]} من حيوان البر ، فلما كان الدم حراما مع وجود الذكاة كان حراما من الحوت ، لعموم{[5309]} قوله تعالى : { والدم } ؛ لأن الدم محرم بغير علة فإن كان سائلا جاريا كما يكون في بعض الحوت كان كالمسفوح من حيوان البر ، وإن كان غير سائل ولا جار جرى{[5310]} الخلاف في مثله من البري{[5311]} ويختلف فيما كان من الدم مما{[5312]} ليس له نفس سائلة من حيوان البر ، فعلى القول باحتياجه إلى الذكاة يحرم من كان من دمه الذكاة ، ويختلف فيما ظهر منه بعد الذكاة . وعلى القول بأنه لا يحتاج إلى ذكاة ويكون ما كان منه في حال الحياة{[5313]} وبعدها سواء يختلف فيه{[5314]} إذا ظهر وبان من الجسم . وكانت{[5315]} العرب تستبيح الدم منه . قولهم : لم{[5316]} يحر م من قصد له وكانوا يأكلون الدم بالقرا في الشدائد ويسمونه العلهز ، ولذلك نزلت الآية في تحريم الدم . وأما الخنزير فإنما نص عليه تعالى{[5317]} وإن{[5318]} كان شحمه وجلده{[5319]} مثل ذلك في التحريم ، لأنه الغالب والأكثر والمعتاد في الأكل من الحيوان . وكانت العرب تحل أكل{[5320]} لحم الخنزير فنزلت الآية لذلك أيضا . وقد تقدم الكلام على هذا الفصل فأغنى عن إعادته هنا . وأما ما أهل به لغير الله{[5321]} فقد تقدم الكلام عليه أيضا ، وكانت العرب تحل أكل{[5322]} ذلك .
وأما المنخنقة ، فهي{[5323]} التي تختنق بحبل ونحوه . وذكّر عن قتادة{[5324]} : أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها .
والموقوذة المضروبة بعصا{[5325]} أو نحوها{[5326]} ، من وقذه{[5327]} يقذه{[5328]} وقذا إذا ضربه ، وكانت العرب تفعل ذلك بها حتى تموت ويأكلونها .
وقال بعضهم : ليس الموقوذة إلا فيما ملك{[5329]} ، فأما{[5330]} الصيد فليس فيه موقوذ{[5331]} . وعن مالك وغيره من الفقهاء : أن من الصيد أيضا موقوذا{[5332]} ، وعلى هذا الأصل اختلفوا فيما قتل المعراض- عصا{[5333]} برأسه حديد يسمى عنه العامة باللواي{[5334]} - بعرضه ، فالجمهور على أنه لا يؤكل . وحكي أنه يؤكل . وقال{[5335]} الأوزاعي : خرق أو لم يخرق ، ومما يؤيد قول الجمهور حديث عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله إني أرمي بالمعراض فأصيب ، أفآكل{[5336]} ؟ قال : " إذا رميت بالمعراض وذكرت الله تعالى فأصاب فخرق فكل ، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل " {[5337]} ، وفي رواية أخرى : " أصاب فخرق فكل وما أصاب بعرضه فقتل ، فإنه وقيذ فلا تأكل " {[5338]} . واختلفوا{[5339]} أيضا فيما قتل بالبندقية ، فالجمهور على أنه لا يؤكل ، خلافا لعمار وابن أبي ليلى{[5340]} ، وابن المسيب{[5341]} ، في إجازة ذلك . وهذا كله يدل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم ، ولهذا قال الشافعي في قول : إذا أخذ الكلب الصيد وقتله ضغطا فإنه لا يحل أصلا كما لا يحل صيد المعراض ، وبه قال أصحاب مالك . وأما ما صدمه الكلب أو نطحه فمات من غير جرح ، فقال ابن القاسم{[5342]} : لا يؤكل وهو قول أبي حنيفة . وعند أشهب{[5343]} : يؤكل وهو{[5344]} أحد قولي الشافعي ، وهذا الصيد يحتمل أن يلحق بالموقوذة ، ويحتمل أن يلحق بالنطيحة وكيفما كان ، فالأظهر أنه{[5345]} لا يؤكل .
والمتردية هي التي{[5346]} تتردى من العلو{[5347]} إلى الأسفل ، مفتعلة من الردى وهو الهلاك ، وكانت الجاهلية تأكلها . وقد اختلف في الصيد إذا جرحه السهم أو{[5348]} الكلب ولم ينفذ مقاتله فسقط في ماء أو من{[5349]} أعلى جبل ، فقيل : إنه يؤكل ، وقيل : إنه{[5350]} لا يؤكل . واختلف فيه عن مالك رحمه الله{[5351]} ، فروى ابن القاسم : أنه لا يؤكل ، وروى ابن وهب{[5352]} : أنه يؤكل{[5353]} . ومن حجة من لا يرى الأكل إلحاقه بالمتردية . والنطيحة الشاة التي نطحتها الأخرى أو غير ذلك ، فهي فعيلة بمعنى مفعولة . وقيل : النطيحة الناطحة ؛ لأن{[5354]} الشاتين قد تتناطحان فتموتان{[5355]} ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وما أكل السبع : كل{[5356]} ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان ، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والسبع ونحوها ، وهذه كلها سباع . ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد . وكانت العرب{[5357]} تأكل أيضا ، وكانت العرب لا تعتقد الميتة إلا ما{[5358]} ماتت{[5359]} بوجع ونحوه دون سبب يعرف . فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ، فحضر{[5360]} الشرع الذكاة إلى صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة{[5361]} . وقد اختلف المفسرون في المنخنقة وأخواتها التي ذكرناها{[5362]} آنفا هل المراد بها{[5363]} ما مات من ذلك ، أو ما أشرف على الموت نفذت مقاتله أو لم تنفذ ؟ على ثلاث أقوال : فذهب جماعة إلى أن المراد بالمنخنقة وأخواتها ما مات من ذلك ، وقالوا : إنما ذكر الله تعالى الميتة حتف أنفها ، والتي تموت{[5364]} بهذه الأسباب ، فأخبر أن جميعها بمنزلة سواء في التحريم ، وهذا قول ضعيف لأن الميتة اسم عام يدخل تحته الميتة حتف أنفها ، والتي{[5365]} تموت بهذه{[5366]} ، فلو كان المعنى كذلك لم يكن{[5367]} لذكر المنخنقة وأخواتها في الآية معنى ، إلا أنه{[5368]} قد{[5369]} يقال : إنما ذكر الله تعالى هذه الأشياء مع الميتة لما قدمناه مما{[5370]} كانت العرب تعتقده فيها . والاستثناء على هذا القول متصل بلا خلاف . وذهب كثير من العلماء إلى ان المراد بذلك ما أشرف على الهلاك ولم ينفذ له مقتل . وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمنخنقة وأخواتها ما أشرف على الهلاك ، نفذت مقاتله{[5371]} أم لا .
3 وقوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } :
مختلف{[5372]} فيه على هذين القولين هل هو استثناء متصل أو منفصل ؟ فالذين فسروا المنخنقة وأخواتها وإن صارت بما أصابها إلى حال اليأس{[5373]} ما لم ينفذ لها مقتل{[5374]} ، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك . وذهبت جماعة منهم أيضا إلى أنه استثناء منفصل . قالوا : فالتقدير : لكن ما ذكيتم من غير هذه الأشياء ، فلم يجيزوا ذكاة هذه الأشياء إذا صارت في حد اليأس مما أصابها وإن لم ينفذ لها مقتل ، وهو قول مالك في{[5375]} الروايتين عن أشهب عنه ، وقول{[5376]} ابن الماجشون{[5377]} وابن عبد الحكم{[5378]} وروايته عن مالك . والذين ذهبوا إلى المنخنقة وأخواتها ما{[5379]} نفذت مقاتلها كما ذكرنا اختلفوا أيضا{[5380]} في الاستثناء ، فذهب الأكثر إلى أنه استثناء منفصل ، والتقدير : لكن ما ذكيتم من غير هذه الأشياء ، فلم يجيزوا أكلها لأنها بسبيل{[5381]} الميتة ، وإن تحركت بعد ذلك فإنما{[5382]} هي{[5383]} بسبيل{[5384]} الذبيحة التي تتحرك بعد الذبح . وذهب قوم{[5385]} إلى أن الاستثناء متصل ، وأن المنخنقة وأخواتها وإن نفذت مقاتلها بما أصابها{[5386]} فما بقيت فيها{[5387]} حياة بتحرك يد أو رجل ، فالذكاة عاملة فيها{[5388]} وهو قول{[5389]} علي بن أبي طالب وابن عباس ، وقد ينسب هذا القول لابن القاسم .
والاستثناء في هذه الأقوال كلها إذا كان متصلا فهو من جميع الأشياء المتقدمة ، وذهب بعضهم إلى أن الاستثناء إنما هو من أكل السبع خاصة ، وأحسبه{[5390]} يرجع إلى أقرب مذكور ، وهو مذهب بعض الأصوليين .
قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } :
النصب حجارة تنصب{[5391]} ، كان منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون حجرا ، وكل أهل الجاهلية يعظّمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضا ، وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحوم قطعا قطعا ليأكل منها الناس . وكان أهل مكة يبدلون تلك الحجارة إذا رأوا أعجب منها إليهم{[5392]} . وهذه النصب ليست بالأصنام{[5393]} ؛ لأن الأصنام مصورة والنصب غير مصوّرة . وقال بعضهم : ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله الواحد يريد- والله تعالى أعلم - أن{[5394]} ما ذبح على النصب جزء منه . وقد تقدم الكلام على حكم ما ذبح على النصب- هل يؤكل أم لا- في سورة البقرة . وبسبب ما كانت العرب تفعل من الذبح على تلك النصب نزلت آية{[5395]} : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } [ الحج : 37 ] ، وقوله : { وما ذبح على النصب } .
وقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } :
حرم الله تعالى القسم بالسهام وهي الأزلام ، وكانت أزلام العرب ثلاثة أنواع ، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه ، على أحدها : أفعل ، والآخر : لا تفعل ، والثالث{[5396]} : مهمل لا شيء عليه ، فيجعلها في خريطة{[5397]} فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وأتمر وانتهى{[5398]} يحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي ليس فيه شيء أعاد الضرب ، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم{[5399]} حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه{[5400]} وقت الهجرة ، ومن ذلك حديث امرئ القيس المشهور حين أراد أن يغزو بني أسد وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله{[5401]} :
سأقضي للذي قالوا بعزم *** ولا أبغي لذلكم قداحا .
والنوع الثاني : سبعة أقداح كانت عند هبل{[5402]} في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل في أحدها : " العقل " ، وفي آخر : " منكم " ، وفي آخر : " من غيركم " وفي آخر : " ملصق " ، وفي سائر الأحكام ، وهي التي ضرب بها{[5403]} عبد المطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا بلغوا{[5404]} عشرة . وهذه{[5405]} السبعة متخذة عند كل كاهن من كهان{[5406]} العرب وكفارهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل . والنوع الثالث : قداح الميسر وهي عشرة ، سبعة منها لها حظوظ بعدد{[5407]} الخطوط التي فيها ، وثلاثة أغفال ، وكانوا يضربون بها مقامرة ، فكان فيها لهو البطالين ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين في كلب{[5408]} البرد{[5409]} ، وكان منهم من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والتجارة ، وقد تقدم ذكر هذه في سورة البقرة بما أغنى عن إعادتها . والاستقسام بهذه كلها هو{[5410]} طلب القسم والنصيب ، وهو من أكل المال بالباطل ، وقد حرمه الله تعالى ، وكل مقامرة{[5411]} بحمام أو نرد أو شطرنج أو سباق أو غير ذلك من الألقاب فهي{[5412]} استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كلها{[5413]} . وقد اختلف في السباق بالسهام وغيرها فأجازه{[5414]} عطاء{[5415]} في السهام وفي كل شيء متأولا حديث عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسابقني على{[5416]} قدميه فكنت أسبقه ، فلما أخذت اللحم سبقني " {[5417]} .
وقال ابن المنذر{[5418]} : إن كان أراد جوازه في كل شيء على غير الرهان فهو سهل{[5419]} ، وإن أراد على الرهان فلا معنى له إذ هو خلاف السنة . أجاز مالك{[5420]} السباق{[5421]} بالسهام والخيل والإبل لا غير{[5422]} ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر " {[5423]} . وقوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } [ الأنفال : 60 ] الآية ، وهو أحد قولي الشافعي ، وأجازه الشافعي في أحد قوليه{[5424]} في تلك الأشياء الثلاثة وفي البغال والحمير . وأجازه بعضهم في الخيل والإبل ، ولم يجزه في غير ذلك لما روي من أنه عليه الصلاة والسلام{[5425]} قال : " لا سبق إلا في خف أو حافر " . وقال أبو حنيفة : لا يجوز الرهان بحال لأنه قمار .
وزعم قوم أن سباق الخيل والقرعة{[5426]} نسختها{[5427]} آية القمار ، وهذا السباق الذي ذكرناه وإن كان من جملة الاستقسام الذي حرم الله تعالى ، فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخيل والإبل والبهائم{[5428]} يبين أن الآية لم يرد بها ذلك ، فيقتصر على ما ورد{[5429]} عنه عليه الصلاة والسلام{[5430]} في ذلك ويبقى الباقي على ما تقتضيه ألفاظ الآيات من التحريم . قال أبو الحسن : وقد استنبط بعض الناس من هذا الرد على الشافعي في الإقراع على المماليك{[5431]} في العتق ، ولم يعلم أن الذي قاله الشافعي بناه على الأخبار الصحيحة{[5432]} وليس مما يعترض عليه بالنهي{[5433]} عن الاستقسام بالأزلام ، فإن العتق حكم شرعيّ يجوز أن يجعل الشرع فيه خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة أو{[5434]} لمصلحة{[5435]} يراها .
وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } :
معناه{[5436]} : يئسوا أن ترتدوا عن دينكم ، وهذه{[5437]} الآية نزلت في أثر حجة الوداع ، وقيل : يوم{[5438]} عرفة يوم الجمعة .
واختلف في اليوم المشار إليه في الآية ؟ فقيل : يريد اليوم المخصوص يوم عرفة وقيل : أراد زمان النبي صلى الله عليه وسلم{[5439]} .
وقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } :
الإشارة باليوم ما قدمناه ، واختلف في الكمال الذي ذكره الله تعالى ما هو ؟ فقيل : هو الإظهار{[5440]} واستيعاب معظم{[5441]} الفرائض ، والتحليل والتحريم ، قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا وآية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل معظم{[5442]} الدين{[5443]} وأمر الحج بأن حجوا وليس معهم مشرك . وقيل : هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك تحريم ولا تحليل{[5444]} ولا فرض . وقال بعض من قال بهذا : لم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة . وروي أن هذه الآية لما نزلت بكى عمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5445]} : " ما يبكيك " ؟ فقال{[5446]} : أبكاني أن كنا في زيادة من ديننا ، فإذا إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدقت " .
4 وقوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة . . . } إلى آخر الآية{[5447]} ، وقد تقدم{[5448]} شرحه في سورة البقرة .