4 قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } :
اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقيل : إن جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد في البيت كلبا فلم يدخل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادخل " فقال : أنا لا أدخل بيتا فيه كلب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب{[5449]} ، فقتلت حتى بلغت الموالي ، فجاء عاصم بن عدي{[5450]} ، وسعد بن خيثمة{[5451]} ، وعويمر{[5452]} بن ساعدة ، فقالوا : يا رسول الله ماذا أحل لنا من الكلاب ؟
فنزلت الآية ، وروى هذا أبو رافع وهو الذي كان تولى قتل الكلاب ، وهذا الجواب على باب{[5453]} إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه ، وهذا مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم في لباس المحرم{[5454]} ، وذلك أنهم سألوا عما يحل لهم من الكلاب فأجيبوا عما يحل لهم من الطيبات ومن الكلاب . وقيل : إن زيد الخيل{[5455]} وعدي بن حاتم{[5456]} الطائيين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا : {[5457]} يا رسول الله إن لنا كلابا تصيد البقر والظباء ، فمنها ما ندرك ومنها ما يفوت وقد حرم الله الميتة فسكت عنهما{[5458]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك ما أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } الآية{[5459]} . وقد اختلف الفقهاء في الطيبات هنا ، فذهب مالك إلى أنها الحلال مستلذا كان أو غير مستلذ ، فجوز أكل الخشاش وشبيهها . وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الطيبات{[5460]} المستلذ ، وخشاش الأرض عندهما غير مستلذ ، فهو عندهما محرم كالوزغ والخنافس ونحوهما من الصيد خاصة .
وقوله تعالى : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) الآية :
تقديره على القول بأن سبب نزول{[5461]} الآية السؤال عما يحل من الصيد{[5462]} وصيد ما علمتم من الجوارح ، وتقديره على القول بأن سببها السؤال عما يحل من الكلاب ، واتخاذ ما علمتم من الجوارح ، ففي هذه الآية على هذا القول أن اتخاذ كلب الصيد حلال . ويجري مجرى كلب الصيد في إباحة الاتخاذ كلب{[5463]} الزرع ، وكلب الضرع ، إذ{[5464]} إنما أباح الله تعالى كلب الصيد{[5465]} لما فيه من المنفعة ، وهذان الآخران أيضا فيهما من المنافع ما يعدل منفعة كلب الصيد ، فجاز اتخاذهما ولا خلاف بين الفقهاء في جواز اتخاذ هذه الكلاب لما قدمناه ، ولما{[5466]} يعضد ذلك من الحديث مثل قوله عليه الصلاة والسلام{[5467]} : " من اتخذ كلبا إلا كلب زرع أو غنم أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراط " {[5468]} . واختلف هل يجوز اتخاذه لحراسة الدور{[5469]} قياسا على ما أبيح من ذلك أم لا ؟ وكذلك اختلف العلماء هل يجوز اتخاذ كلب الصيد لمن{[5470]} ليس بصائد أم لا ؟ وظاهر الآية أنه{[5471]} يجوز اتخاذها{[5472]} للصيد ، و{[5473]} من لم يكن من أهل الصيد لم يجز له اتخاذها{[5474]} .
ودليل خطاب الآية أن{[5475]} ما عدا الكلاب الثلاثة التي قدمنا إذا لم يجز اتخاذها هل تترك أم تقتل ؟ فروي عن مالك أنها تقتل ، ومن حجته{[5476]} ظاهر خطاب الآية مع ما قدمنا من{[5477]} أن سبب نزولها قتل الكلاب . ولما جاء من أنه عليه الصلاة والسلام{[5478]} أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو غنم أو ماشية{[5479]} .
وذهب قوم إلى أنها{[5480]} لا يقتل منها إلا الأسود البهيم ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام{[5481]} : " اقتلوا كل أسود بهيم " {[5482]} ، لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام{[5483]} من أنه شيطان{[5484]} ، وذهب بعضهم إلى أنه لا يقتل منها شيء إلا أن يضر وفي{[5485]} عطف قوله : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } {[5486]} على قوله : { الطيبات } {[5487]} احتمال ظاهر وهو أن المعلم من الجوارح حلال للأكل كالطيبات{[5488]} . قال أبو الحسن : وذلك بعيد فإن الذي يبيح لحم الكلب إن صح ذلك عن مالك لا يخص الإباحة بالمعلم ، فعلى هذا في الكلام{[5489]} حذف ، وإن كان لا بد من الحذف فالتقدير : وصيد ما علمتهم .
وذكر بعضهم أن الآية تدل على إباحة ما علمنا من الجوارح ، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع من الصيد بها والبيع{[5490]} لها ، والإجارة ونحو ذلك .
وهذا بعيد ، لأن السؤال والجواب إنما يقتضيان منفعة الصيد خاصة .
ومن حجة من قال أنها حلال أن ضد{[5491]} الطيب هو الخبيث ، والخبيث حرام فإذا الطيب الحلال ، قال الله{[5492]} تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] ، وقال تعالى : { كلوا من الطيبات } [ المؤمنون : 51 ] يعني الحلال .
قال أبو الحسن : ويبعد تفسيره بالحلال لأن التقدير بصير كأنه قال : يسألونك ماذا أحل لهم ؟ قال : أحل لكم ما أحل لكم ، وهذا لا يليق ببيان صاحب الشريعة ، مع أن هذا الحلال إنما جاء مناقضة لليهود فيما حرم عليهم ؛ لقوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] ، وأخذ الشافعي من هذه الآية جواز أكل الضب والثعلب ، قال : لأن العرب كانت تستطيبها وكل ما تستطيبه العرب فهو حلال وإن كان لا{[5493]} تشتهيه نفوس{[5494]} العجم . وكرههما أبو حنيفة وأجاز{[5495]} مالك أكل الضب وكره الثعلب . ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله تعالى{[5496]} .
قوله تعالى : { من الجوارح } :
اختلف في الجوارح{[5497]} التي{[5498]} نعلم ويؤكل صيدها ما هي بعد اتفاقهم على أن الكلب منها . فقال الجمهور : هي التي يصاد بها ، وهي الكلاب والفهود والبزاة والصقور وما أشبه ذلك . وصيد هذه كلها حلال إذا علمت . وقال بعضهم : هي الكلاب خاصة ، قالوا{[5499]} : لا يجوز أكل صيد غير صيد الكلب ، واحتجوا بقوله/ تعالى : { مكلبين } {[5500]} . وقال بعضهم : هي الكلاب خاصة ما لم تكن سودا بهما ، فصيد{[5501]} السود البهم عندهم لا يجوز ، كما لا يجوز صيد غير الكلب . وجوز قوم صيد الكلب{[5502]} والبازي ، خاصة لحديث عدي بن حاتم إذ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البازي ، فقال{[5503]} : " ما أمسك عليك فكل " فكانت الجوارح البزاة والكلاب على قول هؤلاء خاصة ، والقول الأول أظهر . فأما قوله تعالى : { مكلبين } {[5504]} معناه{[5505]} : معلمين وأصله من التكليب وهو تعليم الكلاب الاصطياد ، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل من علم شيئا من الجوارح مكلبا ، فتكليبها تعليمها الاصطياد . وقيل : مكلبين أصحاب كلاب . واشتقاق الجوارح من الجرح وهو الكسب . وقال قوم{[5506]} : من الجراح فهي على هذا أكل ما له ظفر أو ناب أو{[5507]} مخلب لأنه لا يجرح إلا ما له شيء من ذلك . وقد اختلف في تعليم الجوارح على أربعة أقوال ، أحدها : قول ابن القاسم وأشهب : أن التعليم يصح بوجهين ، أحدهما : أن يفهم الإشلاء{[5508]} والزجر . والثاني : أن يصح بوجه واحد وهو الإشلاء{[5509]} . والثاني : الزجر . والثالث : الإجابة عند الدعاء ، وهذا القول لابن القاسم أيضا ذكره عنه ابن الماجشون . والقول الرابع : الفرق بين الطير وغيرها فيراعي من غير الطير ثلاثة أوجه : الإشلاء{[5510]} والانزجار{[5511]} ، والإجابة{[5512]} يراعي في{[5513]} الطير وجهان : الإجابة{[5514]} والإشلاء{[5515]} . قالوا : ولا يراعى فيها الانزجار{[5516]} لأنه غير ممكن فهو قول ربيعة{[5517]} وابن الماجشون وابن حبيب{[5518]} .
وقوله تعالى : { مما علمكم الله } :
يريد ما طبع في{[5519]} الكبير منا والصغير من إنسادها{[5520]} وتضريتها{[5521]} على الصيد .
وقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } :
ظاهره : أكلت الجوارح منه أو لم تأكل ، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه وقال جماعة من أهل العلم{[5522]} : إذا أكلت من الصيد فلا يؤكل ، قالوا : وإذا أكلت من الصيد فلم تمسك إلا على نفسها و{[5523]} لم تمسك علينا ، والله تعالى{[5524]} إنما أباح لنا ما{[5525]} أمسكت علينا . وقال ناس : إنه لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه ، ولم يقولوا ذلك في سائر الجوارح ، واحتجوا بحديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله علينا وسلم أنه قال : " إذا أكل الكلب فلا تأكل " {[5526]} ، فجعل هذا الحديث كأنه مخصص للآية ، وهذا{[5527]} الذي احتجوا به يعارضه ما{[5528]} جاء في حديث آخر من{[5529]} أنه قال : " إذا أكل فكل " مع ما في ذلك الحديث من أوجه{[5530]} تضعفه . وقال بعضهم في البازي خاصة : إذا أكل فكل ما بقي ولم ير سائر الجوارح كذلك ، وهذا أضعف الأقوال . واختلف أيضا{[5531]} إذ شرب من الدم هل يؤكل صيده أم لا ؟ فالجمهور على أكله لما قدمناه من ظاهر عموم الآية ، وكرهه قوم منهم الثوري{[5532]} . والذين ذهبوا إلى اعتبار ترك الأكل من صيد الجارح في الكلب يأخذ الصيد ويمسكه على صاحبه ويؤخذ آخر فيأكل منه . ففي قول أبي حنيفة : لا يؤكل شيء من ذلك ، وفي{[5533]} قول الثوري : يؤكل الأول ولا يؤكل الثاني الذي أكل{[5534]} منه . ودليل من يجيز الأكل في ذلك كله عموم الآية قوله{[5535]} : { فكلوا مما أمسكن عليكم } ، ولم يفرق{[5536]} . و{[5537]} اختلفوا{[5538]} في{[5539]} قدر ما يختبر به الكلب وحينئذ يصح صيده ؟ فقال أصحاب أبي حنيفة : إذا صاد الكلب فأمسك ثلاث مرات ، فقد حصل منه التعلم{[5540]} . وقال بعضهم{[5541]} : إذا حصل منه{[5542]} ذلك مرة واحدة فهو معلم . وترك الحد في ذلك أجرى على لفظ الآية لمن ذهب مذهبهم فيها . واختلف في الرجل{[5543]} يرسل كلبه أو سهمه على ما رأى وينوي ما لم ير{[5544]} فيصيب ما{[5545]} لم ير هل يؤكل أم لا على قولين ، أحدهما : الإجازة لقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } ، ولم يخصص . واختلف فيمن أغرى كلبه وقد رأى الصيد ولم يكن في يده فصاد{[5546]} بإغرائه هل يؤكل أم لا ؟ فعن مالك فيه{[5547]} روايتان ، والحجة للجواز قوله تعالى : { فكلوا ما أمسكن عليكم } .
واختلف إذا أدرك الصيد والكلاب تنهشه{[5548]} ولم تنفذ مقاتله وقدر على تخليصه أو لم يقدر فلم يذكه حتى مات هل يؤكل أم لا ؟ فذهب قوم : إلى أنه لا يؤكل ، وذهب قوم : إلى أنه يؤكل . وذهب مالك : إلى أنه{[5549]} إن قدر على تخليصه وتذكيته فلم يفعل هذا حتى مات فلم يؤكل ، وإن لم يقدر على تخليصه وتذكيته حتى مات أكل ، ومن حجة من يجيز عموم الآية ؛ إذ لم يفرق ، وحجة مالك رحمه الله{[5550]} أنه{[5551]} لما{[5552]} رأى الصيد وكان{[5553]} يقدر على تخليصه رآه مثل سائر الحيوان المقدور عليه الذي{[5554]} لا يؤكل إلا بالذكاة المعروفة . واختلف في الكلاب إذا نيبت الصيد{[5555]} ولم تجرحه أو صدمته أو ضربه الرجل بسيفه ولم يدمه ، فقال ابن القاسم : ليس بذكي{[5556]} . وقال أشهب : يؤكل وهو مذكي{[5557]} فأجاز ذلك أشهب ، لظاهر قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } الآية{[5558]} . وهذا إمساك ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي : " كل ما أمسك عليك كلبك{[5559]} فإن أخذه ذكاة " والقول الأول أحسن ؛ لقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } ، فالمفهوم منها ما جرح ، ولأن الغالب المعتاد فيها أنها تجرح في حين الاصطياد فوجب تعليق الحكم بالغالب . واختلف في كلب المجوسي واليهودي والنصراني إذ كانوا قد علموه فصاد به مسلم ، فكره ذلك جماعة ، وكأنهم رأوا أن الآية لا تقتضي من الكلاب إلا ما علمه المسلمون ؛ لأن قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } ، فالمفهوم{[5560]} خطاب المسلمين . وأجازه فقهاء الأمصار ، ورأوا أن المراد بذلك ما علم من الكلاب سواء علمه مسلم أو غيره إذا ولي الصيد به مسلم .
وقوله تعالى{[5561]} : " واذكروا اسم الله عليه " :
هذا{[5562]} أمر من الله تعالى بالتسمية على الصيد والذبائح بمنزلة الصيد ، وقد اختلف الناس في التسمية عليهما{[5563]} ، فقيل : إن{[5564]} التسمية{[5565]} عند الإرسال وعند الذبح فريضة فمن تركها عمدا أو سهوا لم يؤكل الصيد ولا المذبوح ، وهذا قول أهل الظاهر . وذهب قوم إلى أن التسمية مندوب إليها ، فإن لم يسمّ الله تعالى عمدا أو سهوا عند الإرسال أو الذبح أكل الصيد والمذبوح ، وهذا قول الشافعي وإلى نحو هذا ذهب أشهب . وذهب قوم إلى أنه إن تركت التسمية عمدا لم يؤكل وإن تركت سهوا أكل ، وهو{[5566]} قول مالك ومن تابعه{[5567]} . واختلف أصحاب مالك في قوله : إن من ترك التسمية عمدا لم يؤكل هل ذلك على التحريم أم{[5568]} على الكراهة على قولين{[5569]} . فأما أهل الظاهر فحملوا قوله تعالى : { واذكروا اسم الله عليه } {[5570]} أنه على الوجوب{[5571]} ، وقالوا : إن المراد بذلك التسمية عند الإرسال . أما الشافعي ومن تابعه فحملوا ذلك الأمر على الندب ، وقال ابن القصار{[5572]} : والدليل على أن التسمية ليست بواجبة ، قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } ، فأمر بأكل ما أمسكن علينا ثم عطف على{[5573]} الأكل قوله{[5574]} : { واذكروا اسم الله عليه } ، والهاء في " عليه " {[5575]} ضمير الأكل لأنه أقرب مذكور ، فإن قيل : الهاء من " عليه " عائدة على الإرسال ، قيل : لو كان شرطا لذكرها قبله ولم يذكرها بعده ، ولما قال : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وقال بعدما تقدم الأكل : { واذكروا اسم الله عليه } ، لم يخل أن يريد بالتسمية التسمية على الإمساك الذي قد حصل ، فكأنه قال{[5576]} : إذا أمسك علينا فحينئذ{[5577]} نسمي ، أو يريد{[5578]} بالتسمية التسمية{[5579]} على الأكل ، فبطل أن تراد{[5580]} التسمية بعد الإمساك علينا من غير أكل لأنه ليس بقول لأحد لأن الناس على قولين : إما أن تكون التسمية قبل الإرسال أو قبل الإمساك أو يكون المراد بها عند الأكل ، وإنما أراد تعالى نسخ أمر الجاهلية التي كانت تذكر اسم طواغيتها على صيدها وذبائحها . ولفظ التسمية : باسم الله والله أكبر .
واختلف هل يذكر معها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فكرهه مالك ومن تابعه ، وأجازه آخرون . والحجة لمالك قوله تعالى : { واذكروا{[5581]} اسم الله عليه } فخص .