5 قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات } الآية :
قوله : { اليوم } إشارة إلى الزمن ، والطيبات قد تقدم الكلام{[5582]} عليها .
وقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } {[5583]} :
اتفق على أن ذبائحهم داخلة تحت عموم قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب{[5584]} حل لكم } ، فلا خلاف في أنها حلال لنا{[5585]} . وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسة{[5586]} فيه كالخمر والخنزير ، فاختلف فيه ، فذهب الأكثر إلى أن ذلك من أطعمتهم داخل تحت قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب } الآية ، وأن أكل كل ذلك جائز . وذهب ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل الله تعالى لنا ذبائحهم ، فأما ما{[5587]} خيف منهم استعمال{[5588]} النجاسة فيه ، كالخمر والخنزير وغير ذلك ، فيجب اجتنابها إلا ما نشاهد منها سليما من ذلك ، فعلى قول ابن عباس لا يجوز أكل شيء من أجنابهم{[5589]} ولا يجوز أكل أطعمتهم المطبوخة دعونا إليها أم لم يدعونا ؛ لأن العلة التي{[5590]} ذكرها موجودة في هذا كله . وعلى القول الأول{[5591]} أكل هذا كله غير ممنوع لعموم الآية . وإذا قلنا : إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق فهل يحمل لفظه على عمومه أم لا ؟ فالأكثر على{[5592]} أن حمل{[5593]} لفظ الطعام{[5594]} على عمومه في كل ما ذبحوه مما حل لهم أو مما{[5595]} حرم الله تعالى{[5596]} عليهم أو حرموه على أنفسهم . وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم . وذهب قوم إلى أن المراد من ذبائحهم بلفظ الطعام ما أحل لهم خاصة ، وأما ما حرم عليهم بأي وجه كان فلا يجوز لنا وهذا هو المشهور من مذهب ابن القاسم . وذهب إلى أن المراد : { الطعام } ذبائحهم جميعا إلا ما حرم الله تعالى عليهم خاصة لا ما حرموه على أنفسهم ، وإلى نحو هذا ذهب أشهب . والحجة للقول الأول ظاهر الآية وهو العموم ، والذين قالوا أنه لا يجوز لنا أكل ما لا يجوز{[5597]} لهم أكله اختلفوا هل ذلك على{[5598]} جهة{[5599]} المنع أو الكراهة ؟ فمن قوي عنده تخصيص الآية منع ، ومن تعارض عنده التأويلان{[5600]} جميعا كره ، فيأتي على هذا فيما{[5601]} فسد{[5602]} عندهم لحال الريبة ثلاثة أقوال : الجواز والكراهة والمنع . ويأتي أيضا في الشحوم و{[5603]} في أكل{[5604]} ما ذبحوه من كل ذي ظفر كالبعير ونحوه ثلاثة أقوال أيضا : الكراهة والجواز{[5605]} والمنع{[5606]} . وهذا الخلاف كله موجود في المذهب .
واختلف أيضا فيما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم أو سموا عليه اسم المسيح هل هو{[5607]} داخل تحت الإباحة لقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } أم لا ؟ فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليله وأن أكله جائز وكرهه مالك وتأول قوله تعالى : { أو فسقا أهل لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] ، على ذلك . ومنع غيره في المذهب من أكله تأول قوله تعالى : { أو فسقا أهل لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] ، على ذلك{[5608]} فعلى هذين القولين لا تتضمن الآية تحليله ، وما ذبحوه أيضا لآلهتهم ففيه أيضا ثلاثة أقوال : فالجمهور قالوا بالمنع ، وبعضهم أجاز{[5609]} ، وبعضهم كره ، والكلام عليه كالكلام فيما{[5610]} تقدم .
وقوله تعالى : { الذين أوتوا الكتاب } :
اختلف العلماء في الذين أوتوا الكتاب من{[5611]} اليهود والنصارى{[5612]} من هم ؟ فذهب قوم إلى أنهم اليهود والنصارى{[5613]} الصرحاء الذين أنزل الله تعالى عليهم التوراة والإنجيل ، فمنع هؤلاء{[5614]} أكل ذبائح نصارى{[5615]} بني تغلب من العرب وذبائح كل من دخل في هذين الدينين ، وكان علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه{[5616]} ينهى عن ذبائح{[5617]} بني تغلب{[5618]} ويقول : أنهم لم يختصوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر . وذهب الجمهور إلى أن الذين أوتوا الكتاب في الآية : كل نصراني من بني تغلب كان أو من غيرهم ، وكل يهودي ، وتأولوا قوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [ المائدة : 51 ] ، وأجازوا أكل{[5619]} ذبائح أجمعهم ، وكان أهل القول الأول رأوا أن من دان باليهودية{[5620]} والنصرانية بعد نزول التوراة والإنجيل ليسوا ممن أتوا الكتاب ، ورأى أهل{[5621]} القول الثاني{[5622]} أنهم{[5623]} ممن أوتيه ، وهذا القول أظهر .
وقد اختلفوا في المجوس والصابئة والسامرة هل هم ممن أوتي كتابا أم لا ؟ وعلى هذا يختلف في ذبائحهم ومناكحتهم . ودليل خطاب هذه الآية أن طعام غير أهل الكتاب غير حلال لنا ولا أعلم فيه خلافا{[5624]} .
وقوله تعالى : { وطعامكم حل لهم } :
هذه الآية{[5625]} للمسلمين لا لأهل الكتاب ؛ لأنه قد كان يجوز أن يمنعهم من أطعمتنا ولا يحلها لهم ، فأباح الله تعالى بهذه الآية للمسلمين أن يبيحوا لهم أكلها . وعلى هذا يجوز للمسلم أن يضيف الكافر ويطعمه من طعامه .
وقوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } {[5626]} الآية :
هذا معطوف على الطعام المحلل .
والإحصان أصله المنع وهو في الشرع على أربعة معان : الإسلام والعفة والنكاح والحرية{[5627]} . فأما في هذا الموضع من القرآن فلا يكون فيه الإسلام{[5628]} لأنه تعالى قد ذكر أنهن{[5629]} من أهل الكتاب ولا يكون فيه النكاح أيضا{[5630]} ؛ لأن ذات الزوج لا تحل لغيره{[5631]} . فأما العفة والحرية ، فالآية محتملة{[5632]} لها جميعا وبحسب الاحتمال اختلف العلماء في تفسيرها : فذهب جماعة منهم إلى أن المحصنات في الآية الحرائر ، ومنعوا نكاح الأمة الكتابية بدليل الخطاب . وقالت جماعة : هن{[5633]} العفائف في هذه الآية أمة كانت أو حرة ، فيجوز نكاح الأمة الكتابية . وقد تقدم الكلام على طرف من هذا . وقد اختلف في نكاح حرائر أهل الكتاب ، فمنعه قوم . وذكر عبد الوهاب{[5634]} في المذهب الجواز ، وذكر غيره الكراهة ، ودليل الجواز هذه الآية . وقد اختلف هل يجوز نكاح غير العفيفة ، فأجازه أكثرهم ، ومنعه بعضهم بدليل خطاب هذه الآية إذ{[5635]} كان الإحصان عندهم في الآية العفة . وقد اختلف أيضا في نساء أهل الحرب هل يجوز نكاحهن{[5636]} ؟ فأجازه قوم لعموم الآية . ومنع ابن عباس من نكاحهن . وخصص الآية بأهل الحرية{[5637]} . وحكى عنه أنه لم يجوز نكاح الحربيات ؛ لقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } {[5638]} [ التوبة : 29 ] الآية ، ولقوله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] ، والنكاح يوجب المودة{[5639]} ؛ لقوله تعالى : { خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] ، وكرهه مالك مخافة ضياع الولد أو تغيير دينه . وقال أبو الحسن : قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يدل على جواز نكاح الكتابيات ، وقوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] ، يمنع نكاح الكتابيات . ولما تعارضتا صار الشافعي إلى تحريم نكاح{[5640]} الأمة الكتابية أخذا بعموم قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] ، وأباح نكاح{[5641]} الحرة{[5642]} الكتابية أخذا بعموم قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، ورأى الجمع بينهما أولى من تعطيل إحداهما ، ومنع آخرون{[5643]} نكاح الكافرات كتابيات كن أو مجوسيات ، وحملوا قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، على أن المراد به اللاتي{[5644]} كن كتابيات ثم أسلمن ، كما قال تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم } [ آل عمران : 199 ] ، وهذا بعيد فإنه تعالى قال : { والمحصنات من المؤمنات } ثم قال{[5645]} : { والمحصنات{[5646]} من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فلا يصح{[5647]} أن يعطف المؤمنات على المؤمنات لما في ذلك{[5648]} من إسقاط الفائدة ، والذي يحرم نكاح الحرة الكتابية يحتج{[5649]} بقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] ، وذلك محمول عند{[5650]} من خالفهم على الحربية {[5651]} إذا خرج زوجها مسلما{[5652]} والحربي تخرج{[5653]} امرأته مسلمة ، ويدل عليه قوله تعالى : { واسألوا ما أنفقتم } [ الممتحنة : 10 ] .
وقوله تعالى : { إذا آتيتموهن{[5654]} أجورهن } :
الأجور : المهور ، وقد اختلف هل للزوج أن يدخل بامرأته{[5655]} قبل أن يقدم{[5656]} لها من المهر شيئا إذا طاوعته على ذلك أم لا ؟ فانتزع جماعة من أهل العلم منهم مالك ومن تابعه من لفظ : { آتيتموهن } أنه لا يجوز أن يدخل إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها{[5657]} به . واختلفوا هل له أن يدخل بالهدية والرهن والحمالة والحوالة أم لا ؟ {[5658]} وظاهر الآية{[5659]} أنه لا يجوز الدخول إلا بإتيان{[5660]} الأجور ، وذلك كله ليس من الأجور فلم يجز الدخول .
وقوله تعالى : { محصنين } :
معناه : متزوجين{[5661]} على السنة ، والإحصان في{[5662]} هذا{[5663]} الموضع النكاح . والمسافح : الزاني . والمخادنة : أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد منهما نفسه على صاحبه . واختلف في هذه الآية : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ، هل هي ناسخة أم لا ؟ فقال جماعة : ناسخة{[5664]} ؛ لقوله تعالى{[5665]} : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 121 ] ؛ لأنه أحل لنا طعام أهل{[5666]} الكتاب وإن لم يذكر اسم الله عليه . وفي هذا القول نظر ، كيف يصح فيه النسخ . وقال بعضهم : ليس بناسخ ، بل هو استثناء من ذلك . وتسمية هذا استثناء ضعيف ، وإنما ينبغي أن يسمي مخصصا{[5667]} . قال أبو الحسن : والنصارى إنما يذبحون على اسم المسيح ، وقد حكم الله تعالى : بحل ذبائحهم مطلقا ، ففي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط عند الذبح أصلا كما يقول الشافعي{[5668]} . وقال قوم{[5669]} : ليس هو{[5670]} بناسخ ولا استثناء ، ولكن إذا لم يذكر الكتابي اسم الله عز وجل على ذبيحته{[5671]} لم تؤكل وهو قول{[5672]} علي{[5673]} وعائشة{[5674]} وابن عمر{[5675]} رضي الله عنهم{[5676]} . ومالك يكرهه{[5677]} إذا لم يسم{[5678]} ولا يحرمه ، ويروى عن أبي الدرداء وعبادة ابن الصامت .