6 قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون6 } :
هذه الآية {[5679]} نزلت{[5680]} بسبب انقطاع العقد لعائشة رضي الله تعالى عنها{[5681]} ، وحينئذ{[5682]} قال لها أسيد بن حضير{[5683]} : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، وكان ذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح ، وقول عبد الله بن أبي سلول{[5684]} : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، وفيها وقع{[5685]} حديث الإفك{[5686]} وآية النساء إنما نزلت معها أو بعدها{[5687]} بيسير ، ولا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة فيها فنزلت ، وهي آية الوضوء . ولكن من حيث كان الوضوء ثابتا عندهم قبل ذلك لم تزدهم الآية فيها إلا{[5688]} التلاوة ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم{[5689]} . ويستدل{[5690]} على حصول الوضوء بقول عائشة : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليسوا{[5691]} معهم ماء{[5692]} فكان الوضوء أولا ثابتا بالسنة ثم وجب{[5693]} بالقرآن ولا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قط صلاة{[5694]} وهو جنب ولا{[5695]} على غير وضوء . روي أنه صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه- يريد في الصلاة- أتاه جبريل فعلمه الوضوء .
وقد اختلف في أمره تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ، هل هو مخصوص بمن كان على غير طهارة ، أو{[5696]} عام{[5697]} لمن كان على طهارة ، أو على غير طهارة ؟ فذهب قوم إلى أنه مخصوص بمن كان على غير طهارة{[5698]} . واختلفوا بعد ذلك في تأويل الآية ، فقيل : المأمورون بذلك المحدثون خاصة ؛ كأنه{[5699]} قال تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة وقد أحدثتم ، وإلى هذا ذهب الشافعي{[5700]} . وقيل : المأمورون بذلك القائمون من النوم . والمعنى : إذا قمتم : إذا قمتم إلى الصلاة وقد نمتم{[5701]} ، وهو قول زيد بن أسلم ، وهو{[5702]} مذهب جميع أهل المدينة ، وهذا القول أولى من الأول ، لأن الإحداث مذكور{[5703]} بعد هذا ، فأغنى ذلك{[5704]} عن ذكره{[5705]} هنا . وأما النوم فلم{[5706]} يقع له ذكر ، وليس بحدث ، وإنما هو سبب للحدث على الأصح في ذلك ، فحمل الكلام على زيادة فائدة أولى من حمله على التكرار بغير{[5707]} فائدة ، فبهذا رجح جماعة من أهل العلم هذا القول . وهذا التأويل في الآية يدل على أن الوضوء واجب على من نام وهي مسألة اختلف{[5708]} فيها على ثلاثة أقوال ، أحدها : أن النوم حدث في نفسه ينقض الوضوء قليله وكثيره ، ومن{[5709]} حجتهم هذا التأويل في الآية ؛ لأنه تعالى أمر بالوضوء عند القيام من النوم إلى الصلاة ، ولم يخص نوما من نوم ، فحملوه على ظاهره وهو قول المزني{[5710]} . وذهب قوم إلى أن النوم ليس بحدث ولا بسبب للحدث{[5711]} ، فلا يجب الوضوء على من نام إلا بيقين خروج الحدث وهو قول{[5712]} أبي موسى الأشعري{[5713]} وغيره ويشبه{[5714]} أن يكونوا صاروا إلى حديث ابن عباس{[5715]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة{[5716]} ، فنام عندها حتى سمعت{[5717]} غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ ، ويرد هذا القول الآية على قول أهل المدينة أو على قول من رآها عامة وقوله عليه الصلاة والسلام{[5718]} : " العينان وكاء الأست{[5719]} ، فمن نام فليتوضأ " . ويتأول حديث ابن عباس أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم{[5720]} قيل له{[5721]} : صليت وقد{[5722]} نمت ؟ فقال : " إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي " {[5723]} .
وذهب الجمهور إلى أن النوم سبب للحدث ، فمنه ما{[5724]} ينقض الوضوء ومنه ما{[5725]} لا ينقضه . ثم اختلفوا فيما ينقض{[5726]} منه مما لا ينقض{[5727]} واختلافهم في ذلك يرجع إلى اختلافهم في الحال التي يكون عليها النوم ، هل هي مما يغلب الظن بانتقاض الوضوء أم لا ؟
فعند الثوري وأبي حنيفة : أنه لا ينقض الوضوء إلا نوم{[5728]} المضطجع خاصة . واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا وضوء إلا على من نام مضطجعا " {[5729]} ، وهذا الحديث قد ضعّفه أبو داود وغيره والشافعي في أحد قوليه ، ففرق بين النوم في الصلاة وفي غير الصلاة ، فلا ينقض الوضوء في الصلاة وينقض في غيره ، وعندنا في المذهب تفصيل كثير . وحجة من أوجب الوضوء في شيء من النوم عموم الآية ، ولا خلاف عند القائلين المتقدمين في الآية أن أمر الله تعالى بالوضوء في الآية إيجاب . والذين ذهبوا إلى{[5730]} أن الأمر بالوضوء عام لمن أحدث ولمن لم يحدث ، ورأوا لكل من قام إلى الصلاة أن يتوضأ محدثا{[5731]} كان أو غير محدث اختلفوا في ذلك الأمر{[5732]} هل هو أمر إيجاب أو أمر ندب ؟ فذهب جماعة على أنه أمر ندب ، فلم يوجبوا الوضوء على من قام إلى الصلاة وهو على وضوء ، وأوجبوه{[5733]} على من قام إلى الصلاة وهو على غير وضوء بغير هذه الآية . وحمل بعضهم مذهب علي بن أبي طالب على هذا ، وذهب بعضهم إلى أن الأمر بالوضوء أمر إيجاب بذاته ، قالوا : فيجب على كل من قام إلى الصلاة الوضوء محدثا كان أو غير محدث ، ثم اختلفوا هل ذلك محكم أو منسوخ ؟
فذهب جماعة إلى أنه محكم وأوجبوا الوضوء على كل قائم إلى الصلاة ، وهو قول ابن سيرين وعكرمة وعبيد بن عمير{[5734]} . وذكر عن ابن عمر أنه يتوضأ لكل صلاة ، وحمل قوم مذهب علي بن أبي طالب على هذا .
وذهب جماعة إلى أنه منسوخ ، وأجازوا الجمع بين الصلوات بوضوء واحد ، وقالوا : إن الذي نسخ الآية : ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم{[5735]} يوم فتح مكة في{[5736]} صلاته خمس صلوات بوضوء واحد ، فقال له{[5737]} عمر : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : " عمدا فعلته يا عمر " {[5738]} ، وما فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ دعته المرأة من الأنصار إلى شاة مصلية ومعه أصحابه ، فصلى الظهر والعصر بوضوء واحد{[5739]} ، وهذا القول يأتي على قول من يجيز نسخ القرآن بالسنة . وقد قال بعض من ذهب إلى هذا{[5740]} : أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أحدث لم يكلم أحدا حتى يتوضأ وضوء الصلاة ، فنسخ الله تعالى ذلك وأمر بالوضوء{[5741]} عند القيام إلى الصلاة خاصة ، ثم نسخ ذلك صلى الله عليه وسلم بفعله يوم فتح مكة .
وقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } :
قال التونسي{[5742]} : فلم يذكر غسل اليدين{[5743]} قبل الوضوء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل : " توضأ كما أمر الله تعالى " {[5744]} ، فأحاله على ما في{[5745]} القرآن ، فكان في هذا{[5746]} دليل على أن غسل اليدين ليس بواجب .
وقد اختلف في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه " {[5747]} .
فقيل : إن ذلك على باب التنظيف لما يمكن أن يمس يده ، فلو تيقن نظافة يده{[5748]} لم يغسلها ، ذكره أشهب . وروي عن ابن القاسم : أنه يغسل يديه وإن كان بقرب مسه الماء ، وكأنه{[5749]} رأى ذلك عبادة . وفي حديث عبد الله بن زيد{[5750]} غسل اليد ، وهو دليل على ذلك . وقد اختلف في هذه الآية هل فيها تقديم و{[5751]} تأخير أم لا ؟ فقيل : فيها تقديم وتأخير ، تقديره : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى{[5752]} المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ، وإنما قدرها هكذا من ذهب إلى هذا التأويل وهو محمد بن مسلمة من أصحاب مالك ؛ لأن ظاهرها أن المرض والسفر حدث يوجب الوضوء كالمجيء من الغائط سواء ، وذلك لا يصح بإجماع . وقال بعضهم : وهذا القول في الآية إنما يأتي على قول من رأى أن قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } معناه من{[5753]} النوم . وقيل : إن الآية على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير ، ومعنى قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى } أي مرضى{[5754]} لا تقدرون على مس الماء ، أو عدم{[5755]} من يناولكم إياه ؛ لأن المرض يتعذّر معه مس الماء ، والوصول{[5756]} إليه في غالب الأحوال ، فاكتفى تعالى بذكر المرض ، وفهم منه المراد كما فهم من قوله تعالى : { فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] ، و{[5757]} إن{[5758]} معناه فضرب فانفجرت . وكذلك قوله تعالى{[5759]} : { أو على سفر } يريد غير واجدين{[5760]} الماء{[5761]} ، فاقتصر على ذكر السفر وفهم المراد منه ؛ لأن السفر يعدم فيه الماء{[5762]} في غالب الأحوال . ثم قال : { أو جاء أحد منكم من الغائط } الآية : يريد في الحضر ، وقد كان قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } يعم الحضر والسفر ، لكنه لما كان الغالب في الحضر وجود الماء أعاد ذكره وصرح بذلك الشرط ، فقال : { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا } ، قال بعضهم : وهذا القول إنما يأتي على القول بأن معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة وقد أحدثتم ، وإلى أن الآية على تلاوتها ذهب مالك رحمه الله{[5763]} في " المدونة " ؛ لأنه يقول فيها : إن المريض الذي لا يقدر على مس الماء يتيمم وإن كان واجدا للماء ، وأن الصحيح الحاضر غير المسافر يتيمم إذا عدم الماء على التأويل الذي ذكرناه ، وهو قول مجاهد{[5764]} ، قال : وذلك مما يخفى{[5765]} من تأويل القرآن .
ومن حمل الآية على التقديم والتأخير لا يجيز{[5766]} التيمم للمريض مع وجود الماء ، وإن لم يقدر على مسه ولا الصحيح الحاضر وإن عدم الماء ؛ لأنه بعيد من{[5767]} قوله : { فلم تجدوا ماء } {[5768]} على السفر والمرض{[5769]} . وقيل في تأويل هذه{[5770]} الآية أن " أو " {[5771]} في قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } بمعنى الواو ، قال : فتبقى الآية على ظاهرها لا يحتاج فيها إلى{[5772]} تقديم ولا{[5773]} تأخير ، ولا يفتقر إليها إلى إضمار ، إلا{[5774]} أنه لا يكون المريض الواجد للماء إذا لم يقدر على مسه ، ولا الحاضر للعادم للماء ، من أهل التيمم أيضا على ذلك التأويل . وقد مر الكلام على بعض هذا في سورة النساء . وقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } أي{[5775]} إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، مثل قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] ، معناه : إذا أردت قراءة القرآن ، وفي تعليقه تعالى الوضوء بإرادة الصلاة دليل على أن الوضوء يراد للصلاة ، وأنه شرط في صحتها ، قال صلى الله عليه وسلم : { لا يقبل صلاة بغير طهور } {[5776]} . وفي ذلك دليل واضح{[5777]} على افتقاره إلى النية لأنها{[5778]} شرط في صحة فعله لإرادة{[5779]} الصلاة ، فإذا فعله{[5780]} الإنسان تبردا أو تنظفا فلم يفعله على الشرط الذي شرط الله تعالى فذلك يوجب أن لا يجزيه{[5781]} ، وهذا هو المشهور في المذهب ، أنه لا يجوز الوضوء والغسل إلا بنية لما قدمناه ، وكذلك التيمم . وقد قيل : أن كل ذلك لا يحتاج فيه إلى نية ، وهو قول الأوزاعي . وقيل : إنه{[5782]} لا يحتاج إلى نية{[5783]} في ذلك إلا التيمم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وفي المذهب رواية مثل ذلك . ودليل{[5784]} مفهوم الآية كما ذكرناه{[5785]} يرد على من لم{[5786]} يشترط النية ، ومن الدليل أيضا على صحة المشهور من قول مالك قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] ، والوضوء من الدين ، فيجب{[5787]} أن لا يجزئ بغير نية ، وقال عليه الصلاة والسلام : { إنما الأعمال بالنيات } {[5788]} . والوضوء عمل من الأعمال ، ولما كان التلبس بالصلاة في{[5789]} غالب الأحوال إنما هو بقيام جاءت العبارة بقوله : { إذا قمتم } . واختلف في التسمية على الطهارة ، فقيل : هي غير واجبة ، وهو قول مالك ومن تابعه . وقيل : هي واجبة{[5790]} لا يجزئ الوضوء إلا بها سواء نسي{[5791]} تركها أو تعمده{[5792]} ، وهو قول داود وأحمد . وقيل : هي واجبة ولكن إن نسيها أجزأ عنها{[5793]} الوضوء ، وإن تعمد لم{[5794]} يجزه . ودليل القول{[5795]} الأول قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } {[5796]} ولم يذكر التسمية .
قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } :
الغسل عند أهل اللغة أن يمر الإنسان الماء على الشيء المغسول مع إمرار شيء معه كاليد ونحوها{[5797]} ، وبهذا{[5798]} قال مالك وأصحابه في الوضوء والغسل{[5799]} . وقال الشافعي : عليه إجراء الماء على أعضاء{[5800]} الوضوء{[5801]} ، وليس عليه دلكهما بيده . قال : وإذا{[5802]} انغمس الرجل في الماء أو غمس وجهه أو يده ولم يدلك ، قيل : قد غسل يده ، وغسل وجهه . وقول مالك وأصحابه أظهر لما قدمناه من معنى الغسل في اللغة .
وإن كان بعضهم حكى{[5803]} : غسلتنا السماء . والوجه مأخوذ من المواجهة ، وحده من منابت شعر الرأس إلى آخر الذقن ، وعند بعضهم قال التونسي . وليس اللحي الأسفل من الوجه . وفي " العتبية " {[5804]} أن اللحي{[5805]} الأسفل{[5806]} من الوجه يغسل في الوضوء ، وخطأ من قال : إنه ليس{[5807]} من الوجه ، وقد نقلها{[5808]} فضل في " مختصر{[5809]} الواضحة " {[5810]} عنه أيضا ، وحده في العرض من العارض إلى العارض . واختلف فيما زاد من اللحية على الزمن هل هو من الوجه أم لا ؟ فروي عن مالك أنه لا يجب غسله ، ووجه ذلك أن اللحية{[5811]} ليست بوجه ألا ترى من طالت لحيته لا يقال : طال{[5812]} وجهه ، وإنما يقال : طالت لحيته ، وإنما أوجب الله تعالى غسل الوجه ، وما طال من اللحية فليس بوجه فلا يجب غسله . وروي عنه أيضا أن اللحية من الوجه ، فيجب أن يمر الماء عليها إلى آخرها ، وهو المشهور من قوله . ووجهه أنها لما نبتت{[5813]} في الوجه حكم لها{[5814]} بحكم الوجه . وعند مالك أيضا في تخليل اللحية روايتان . واختلف في البياض الذي بين العارض والأذن ، فقيل : إنه من الوجه يجب غسله ، وقيل : إنه ليس من الوجه فلا يجب غسله ، وقيل : يغسله الأمرد ولا يغسله الملتحي ، وقيل : إن غسله سنة من السنن{[5815]} في{[5816]} الوضوء . واختلف على أربعة أقوال في المضمضة والاستنشاق{[5817]} ، فقيل : إنهما في الوضوء والجنابة جميعا ، وهو مذهب مالك . وقيل : هما واجبتان في الطهارتين جميعا وهو قول إسحاق وابن أبي ليلى . وقيل : الاستنشاق واجب فيهما ، والمضمضة غير واجبة وهو قول ابن حنبل . وقيل : هما واجبتان في غسل{[5818]} الجنابة دون الوضوء{[5819]} . ودليل مالك ومن تابعه قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } . والاسم{[5820]} لا يطلق على الباطن . واختلف في شعر الوجه إذا كان كثيفا أو غير كثيف هل يلزم توصيل{[5821]} الماء إلى البشرة أم لا{[5822]} ؟ فمنهم{[5823]} من رأى توصيله{[5824]} إلى البشرة ، وهو قول أبي حنيفة . ومنهم من لا يرى إيصال الماء إلى البشرة إذا كان الشعر كثيفا{[5825]} . وإذا لم يكن كذلك وجب إيصال الماء إليها لأنه إذا كان كثيفا خرج عن المواجهة ، والوجه إنما هو مأخوذ من المواجهة ، فما لم يكن مواجها لم يجب{[5826]} غسله ، وإذا كان خفيفا لا يستر البشرة دخل في المواجهة ، فلزم أيضا{[5827]} إيصال الماء إليه ، لقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } وما لم{[5828]} يستره الشعر ، فداخل{[5829]} في الاسم .
واختلف في داخل العينين هل يلزم{[5830]} غسله أم لا ؟ فالجمهور على{[5831]} أن ذلك لا يلزم . وروي عن عبد الله بن عمر أنه{[5832]} كان ينضح الماء في عينيه ، والحجة للقول الأول قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } وداخل العينين ليس من الوجه .
وقوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } :
اليد عند العرب تقع {[5833]} على العضو ما بين المنكب إلى آخر الأصابع ، و لا خلاف أنه لا يجب غسل اليدين إلى المنكبين ، فأما ما يروي في{[5834]} ذلك عن أبي هريرة فإنما هو استحسان منه ؛ لأن ذلك من عمل{[5835]} الوضوء ، لأن الآية ترده . وإنما اختلف هل يدخل المرفقان{[5836]} في الغسل أم لا ؟ فعن مالك في ذلك روايتان ، فوجه{[5837]} نفي{[5838]} دخولهما قوله تعالى : { المرافق } و { إلى } تعطي الغاية ، فوجب أن يوقف عندها . ومن قال بإيجاب غسلهما ، قال : { إلى } بمعنى " مع " ، ومثله قوله تعالى : { من أنصاري إلى الله } [ آل عمر ان : 52 ] ، أي مع الله ، { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] ، أي مع أموالكم . وقال بعضهم : إن{[5839]} " إلى " على بابها ، وتعطي الحد ، ولكنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخل فيه وهو قول المبرد . والمرافق من جنس الذراعين ، فوجب أن تدخل في الغسل مع الذراعين{[5840]} .
وقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } :
المسح أن يمر{[5841]} على{[5842]} الشيء الممسوح بشيء مبلول بالماء ، واختلف في هيئة المسح كيف تكون على أربعة أقوال . فقيل : إن الماسح يبدأ بمقدم{[5843]} رأسه ، ثم يذهب بيده إلى قفاه ، ثم يردهما{[5844]} إلى المكان الذي منه بدأ ، وهو قول مالك والشافعي وغيرهما . وقيل : يبدأ من مؤخر الرأس ثم يجيء بذلك إلى المقدم ، ثم يرده إلى المؤخر . وقيل : يبدأ بوسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ، ثم يرده فيصيب باطن الشعر ، فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمر يديه{[5845]} على ظاهر شعر{[5846]} مؤخر الرأس{[5847]} ثم يرد فيصيب باطنه ويقف في{[5848]} وسط الرأس . وقيل : يمسح من هنا وهنا على غير نظام ، ولا يبدأ بمحدود{[5849]} حتى يعمه . وحجة هذا القول عموم الآية إذ{[5850]} لم يخص مسحا من مسح . وحجة القول الأول الحديث المشهور في كيفية المسح{[5851]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والسنة مبينة للقرآن ، إلا أن ظاهره أنه يأتي بمسح الرأس مرتين : مرة من الأدبار ومرة من الإقبال . وقال ابن الجلاب : ما يقتضي أن تكون مسحة واحدة تجمع{[5852]} مسح{[5853]} ظاهر الشعر وباطنه ، فلذلك كان الإقبال والإدبار . واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن : / فالجمهور على أنه سنة . وقيل : هو فرض . وحجة الجمهور قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } والمسح قد وقع بالمسحة الأولى فما بعد ذلك غير واجب . واختلف في قدر ما يجزئ من مسح الرأس على أحد عشر قولا . فقيل : لا يجزئ من مسح الرأس إلا عمومه كله ، واختلف هؤلاء في هيئة المسح كما قدمنا{[5854]} ، وهو المشهور . وقيل : يجزئ مسح ثلثيه ، وهو قول محمد بن مسلمة{[5855]} . وقيل : يجزئ مسح الثلث لأنه كثير في أمور الشرع ، وهو قول أبي الفرج ، وروى عن مالك{[5856]} . وقيل : يجزئ المقدم{[5857]} وهو قول أشهب . وأكثر من يذكر عنه الاجتزاء بمسح بعض الرأس ، فإنه يرى{[5858]} ذلك البعض في مقدم الرأس ، وذلك لأحاديث في بعضها ذكر الناصية ، وفي بعضها ذكر مقدم الرأس{[5859]} . وقيل : يجزئ مسح ناحية من نواحي الرأس ما كانت ، وهو قول إبراهيم والشعبي{[5860]} . وقيل : يجزئ مسح اليافوخ فقط ، وقد روي ذلك عن ابن عمر . وقيل : يجزئ مسح الربع ، لا يجزئ أقل منه ، وهو أحد قولي أبي حنيفة وقول زفر .
وقيل : يجزئ أقل ما يقع عليه اسم{[5861]} مسح{[5862]} سواء مسح بيديه أو بخشبة ، أو وقف تحت ميزاب حتى قطر على رأسه{[5863]} الماء ، وبه قال الأوزاعي والنخعي والثوري ، والمشهور من قول الشافعي . وقيل : يجزئ مسح ثلاث شعرات ، وهو قول بعض أصحاب الشافعي . وقيل : إن مسح بثلاثة{[5864]} أصابع جاز ، وإن كان الممسوح أقل مما{[5865]} يمر عليه ثلاثة أصابع لم يجز ، وهو قول أصحاب الرأي . وقيل : إنه يجزئ مسح شعرة واحدة ، وهو قول الثوري في الرجل ، والحسن بن أبي الحسن في المرأة . وأكثر أسباب الخلاف في{[5866]} هذه{[5867]} المسألة دخول " الباء " في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } . والقول{[5868]} فيها عند أصحاب مالك على وجهين ، أحدهما : أنها زائدة مؤكدة ، فالمعنى : امسحوا رؤوسكم{[5869]} ، فيجب المسح لجميع{[5870]} الرأس على نص الآية . وقال بعضهم : إن " الباء " على بابها للإلصاق ، ليست بزائدة . والمعنى على ثبوت " الباء " أو{[5871]} سقوطها سواء ، وبذلك وجب عموم المسح ، وهذا الوجه{[5872]} أحسن لأن زيادة " الباء " في هذا الموضع غير معروف في كلام العرب . والذين ذهبوا إلى جواز مسح البعض ، قال أكثرهم : إن " الباء " للتبعيض فيقتضي مسح بعض{[5873]} الرأس{[5874]} ، وهذا قول ضعيف عند أهل العربية{[5875]} ، وقد رده ابن جني{[5876]} في " سر الصناعة " ، وبين فساده غير أنه أراد قائل هذا أن " الباء " بمعنى " من " ، فكأنه قال : " امسحوا{[5877]} من رؤوسكم " ، فهذا قول ضعيف أيضا لأنه إخراج " للباء " عن{[5878]} بابها ، وإنما يجوز على مذهب بعض الكوفيين ، وقد قال بعضهم : من جعل الباء للإلصاق{[5879]} أنها تقتضي جواز مسح بعض الرأس . وليس ذلك بصحيح ، لما فيه من الخروج عن الظاهر . ولو صح أن " الباء " تصلح للمعنيين : التبعيض والإلصاق{[5880]} وأشكل الأمر لكان{[5881]} المشهور من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا للإشكال في الآية ، لأنه مسح جميع رأسه ، وقال : " هذا وضوء لا يقبل الله صلاة إلا به " {[5882]} ، وما روي عنه في مسح بعض رأسه شاذ ، ويحتمل أن يكون لعذر ، أو تجديدا من غير حدث فلا حجة فيه . واتفقوا على استحسان المسح باليدين جميعا ، وأنه إن مسح بيد واحدة أجزأه . واختلف{[5883]} في أقل من ذلك . فقال بعضهم : لا بد في{[5884]} مسح ذلك من ثلاثة أصابع وإلا لم يجز{[5885]} المسح بأصبع أو ببعض أصبع . وحجة هؤلاء عموم الآية . واختلف في عدد المسحات : فالجمهور على أنه{[5886]} مرة واحدة ولم يستحبوا{[5887]} غير ذلك ، واستحب الشافعي ثلاثا . وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين . وقيل : يمسح{[5888]} الرأس ثلاثا ، وهو قول أنس وسعيد ابن جبير وغيرهما . والقول الأول أصح ، لقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } . وبالمسحة الواحدة{[5889]} يقع المسح المأمور به ، ويسقط{[5890]} الفرض ، لاسيما وقد رجح حذاق الأصوليين أن الأمر لا يقتضي التكرار . واختلف في مسح الرأس بما يفضل على اليدين{[5891]} من{[5892]} البلل دون أن يجدد له الماء : فأجازه قوم ، وكرهه الأكثر{[5893]} ، وهذا أحسن ؛ لأن قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } يدل على ابتداء فعل في الرأس ، وإذا مسح بما فضل على{[5894]} اليدين{[5895]} فليس بابتداء فعل . وابتداء المسح إنما هو أن{[5896]} يغمس{[5897]} اليد بالماء ثم يمر على الرأس .
واختلف في الأذنين هل هما من الرأس أم لا ؟ على ستة أقوال ، فقيل : هما من الرأس يمسحان معه . وقيل : هما من الوجه يغسلان معه . وقيل : ظاهرهما من الوجه يغسلان{[5898]} معه ، وباطنهما من الرأس فيمسحان{[5899]} معه . وقيل : إنهما{[5900]} عضوان ليسا{[5901]} من الوجه ولا من الرأس ، وهو قول الشافعي وأبي ثور ، ولا شيء على من تركهما على قولهما . وقيل : إنهما{[5902]} يغسلان مع الوجه ، ويمسحان مع الرأس . وقيل : إنهما من الرأس ولكن{[5903]} يجدد الماء{[5904]} لهما وهو قول مالك رحمه الله{[5905]} . وهذا هو الصحيح{[5906]} ، لأنهما ليسا من الوجه ، لأن الوجه من المواجهة . والمواجهة{[5907]} لا تكون بالأذنين .
واختلف عندنا في مسحهما هل هو واجب أم{[5908]} سنة ؟
فعن مالك روايتان ، فوجه الوجوب أنهما من الرأس ، فواجب مسحهما لأنهما داخلتان{[5909]} في عموم قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } . وذكر بعض أصحاب مالك أن الخلاف في ذلك إنما هو في ظاهرهما وأما باطنهما فلا خلاف في{[5910]} أنه سنة .
وقد اختلف في المسح على العمامة والخمار أو نحو ذلك مما يحول دون الرأس : فذهب مالك ومن تابعه إلى أنه لا يجوز ذلك ، وأجازه داود وابن حنبل{[5911]} والشافعي{[5912]} في أحد قوليه ، وجماعة من السلف سواهم ، لآثار واردة في ذلك وقياسا على الخفّين . والصحيح{[5913]} مذهب مالك ؛ لأن الله تعالى يقول : { وامسحوا برؤوسكم } ومن مسح على حائل فلم{[5914]} يمسح على رأسه ، وما جاء من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم فلعله فعل ذلك لعذر ، أو لتجديد من غير حدث فلا حجة فيها .
واختلف فيما طال من شعر الرأس للرجل والمرأة ، وزاد على قدر الرأس هل على صاحبه أن يمسحه في الوضوء أم لا ؟
والروايتان عن مالك ، فوجه القول بأن{[5915]} ليس عليه مسحة أن شعر الرأس{[5916]} ليس برأس ، ولا يقال لمن طال شعر رأسه : طال رأسه ، وإنما يقال : طال شعره وإنما أوجب الله{[5917]} تعالى مسح شعر{[5918]} الرأس لا ما سوى ذلك . ووجه القول الآخر أنه{[5919]} لما{[5920]} نشأ من الرأس حكم له بحكم الرأس ومن مسح الرأس ثم حلق شعره فلا إعادة عليه خلافا لعبد العزيز بن أبي سلمة ، لقوله تعالى{[5921]} : { وامسحوا برؤوسكم } ، {[5922]} وهذا قد فعل .
وقوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } :
اختلف في قراءتها : فقرأها قوم بالنصب ، وقرأها قوم بالجر ، وقرأها قوم{[5923]} في غير السبع بالرفع ، ورويت أيضا عن نافع . وبحسب هذا اختلف الصحابة ومن بعدهم . فأما{[5924]} القراءة{[5925]} بالنصب فعلى أن{[5926]} العامل{[5927]} : " اغسلوا " مبني للمجهول على أن الغرض في الرجلين الغسل دون المسح . وأما القراءة بالرفع{[5928]} فعلى تقدير : { وأرجلكم } {[5929]} فاغسلوا ، على حذف الخبر ، وهذا مبني على أن الفرض الغسل وهو قول الجمهور ، وهو الذي علم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى قوما يتوضّؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته : " ويل للأعقاب من النار " {[5930]} . وأما القراءة بالخفض{[5931]} فعلى العطف على رؤوسكم .
واختلف في الذين رأوا ذلك ، فمنهم{[5932]} من حمل الآية على ظاهرها ، فرأى أن الرجلين يمسحان ولا يغسلان وأن المسح فرضهما{[5933]} خلافا لقول الجمهور الذي ذكرناه . وممن روى عنه ذلك{[5934]} ابن عباس ، قال : الوضوء مسحتان{[5935]} وغسلتان . وروي أن الحجاج{[5936]} خطب بالأهواز{[5937]} فذكر الوضوء فقال : " اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وأنه ليس شيء من آدم أقرب لخبثه{[5938]} من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما " ، فسمع ذلك أنس ابن مالك فقال : صدق الله ، وكذب الحجاج ، قال تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } . وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما ، وروي أيضا عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح والسنة الغسل{[5939]} . والذين ذهبوا إلى أن الوجهين ثابتان جميعا{[5940]} بين الآية{[5941]} والحديث{[5942]} ، فمنهم{[5943]} من ذهب إلى الجمع{[5944]} بينهما ، ومنهم من رأى أمرهما إلى التخيير ، وإلى القول بأن الفرض المسح ، ذهب عكرمة والشعبي وأبو جعفر وقتادة ، وهو قول طائفة من الشيعة .
وأكثر من قرأ { وأرجلكم } بالخفض{[5945]} لم يروا{[5946]} المسح على الرجلين{[5947]} ، بل{[5948]} رأوا أن فرضهما الغسل كما يأتي على قراءة النصب ؛ إلا أنهم اختلفوا في تخريج هذه الآية ولم يحملوها على ظاهرها ، فمنهم من قال : يحتمل أن يكون عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى ، والمراد : الغسل كما قال{[5949]} :
علفتها تينا وماءا باردا{[5950]}
وهذا الوجه يضعف من قبل أن يحتاج فيه إلى إضمار الجر مع فعل متعلق به ، مع أنه ليس في الكلام ما يدل على ذلك الفعل .
وقيل : إن " و{[5951]} أرجلكم " خفض على الجواز{[5952]} ، وهذا بعيد على مذهب الخليل وسيبويه{[5953]} من جهة{[5954]} حرف العطف{[5955]} . وقيل : " وأرجلكم " معطوف على " برؤوسكم " إلا أنه أراد بالمسح في الرأس{[5956]} ، المسح المعروف{[5957]} ، وأراد بالمسح في الأرجل الغسل . وفي هذا القول ضعف ؛ لأنه تعالى أمر فيهما جميعا بالمسح بلفظ{[5958]} واحد ، فيقتضي ذلك أن يكون ما يجري على أحدهما يجري على الآخر ، وإلا كيف يجتمعان في اللفظ ويختلفان في المعنى في{[5959]} ذلك اللفظ{[5960]} بعينه{[5961]} ، وإن كان المسح لعمري{[5962]} قد استعمله العرب في الغسل ، حكى أبو زيد{[5963]} وغيره ذلك . وقيل : قوله تعالى{[5964]} : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } اقتضت هذه الآية مسح الرجلين ، لكن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من الغسل{[5965]} نسخ ذلك وهذا القول على القول بنسخ القرآن بالسنة ، وفيه خلاف . وقيل : إن الآية{[5966]} اقتضت بظاهرها المسح في الرأس والرجلين ، فبيّنت السنة مراد الله تعالى بذلك . وأعلمت{[5967]} أن المسح في الرأس على ظاهره ، وأن المسح في الرجلين{[5968]} مع إمرار الماء ، وذلك هو الغسل . وقيل : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } : إنما خفضها لأنه أراد المسح على الخفين . وفي هذا لعمري ضعف ؛ لأن الأمر بالمسح في الرأس والرجلين واحد ، فكيف يكون أمر واحد في حال واحدة أمر وجوب في أحدهما وأمر غير وجوب في الآخر ، مع أن قوله تعالى : { وأرجلكم } لا يقتضي إلا{[5969]} المسح دون حائل ، هذا ظاهره .
وقد اختلف في المسح على الخفين ؟
ففيه عن مالك ثلاث روايات ، إحداها{[5970]} : جواز المسح في السفر والحضر ، وفي الآية على هذا التأويل حجة لقوله{[5971]} هذا . والثانية : ترك المسح عليهما في السفر والحضر{[5972]} ، ويعضد هذا القول قراءة من قرأ : " وأرجلكم " بالنصب{[5973]} ، على قول من قال{[5974]} أن ذلك ناسخ للمسح على الخفين ، وهو قول جماعة من أهل العلم . والثالث : جواز المسح في السفر دون الحضر{[5975]} وما اضطربت أقوال العلماء في ذلك إلا{[5976]} بحسب اضطراب الأحاديث واختلاف التأويل والقراءات . وقد ذهب{[5977]} بعض من أنكر المسح على الخفين إلى أن الأحاديث الواردة في ذلك أخبار آحاد زادت{[5978]} على نص القرآن ، وأن{[5979]} القرآن يقتضي الغسل ، والزيادة على النص نسخ ، ولا يجوز نسخ القرآن ، بأخبار الآحاد ، وقد يجاب عن هذا بأن الزيادة على النص ليست نسخا وإن لم تكن نسخا قبلت ، وجاز العمل بها ، وهي مسألة تتحقق من كتب الأصول على أنه قد ذكر ابن عبد البر أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين نحو أربعين{[5980]} من الصحابة{[5981]} . وروي عن الحسن البصري أنه قال : أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحون على الخفين ، وهذا الذي ذكره من العدد مما يجوز أن بقع به العلم ، ويحصل به التواتر ، فيجوز نسخ القرآن به إن لم يكن هناك وجه غير النسخ ، وقد روى إبراهيم عن همام بن الحارث ، قال : رأيت جريرا بال وتوضأ من مطهرة ومسح على خفيه ، فقيل له : أتفعل هذا ؟ قال : ما يمنعني أن أفعله وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله . وفي بعض طرقه قيل : له{[5982]} : إنما كان ذلك قبل نزول المائدة ، إشارة إلى أن{[5983]} القرآن نسخه ، قال : ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة ، فكان يعجبهم حديث{[5984]} جرير لذلك .
والذين ذهبوا إلى جواز المسح عليهما اختلفوا في الأفضل من ذلك ، فروي عن أبي أيوب أنه قال : حبب إليّ الغسل . وروي عن{[5985]} سلمان التميمي ، أنه قال : المسح أفضل . وحديث جرير هذا يرد ما ذكر{[5986]} عن بعضهم من أن الغسل الوارد في القرآن نسخ المسح . وعندي في قراءة الخفض وجه آخر لم أر أحدا من أهل العلم{[5987]} تكلم{[5988]} عليه{[5989]} ، وهو{[5990]} أن يكون التقدير وجميع أرجلكم أو{[5991]} نحو ذلك من الكلام مما يكون منصوبا{[5992]} معطوفا على أيديكم ، ثم حذف ذلك ، وبقي المضاف إليه على جرّه لما في قوة الكلام من الدلالة عليه . وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي رحمه الله في قول الشاعر :
رحم الله عظما دفنوها *** بسجستان طلحة الطلحات{[5993]} {[5994]}
على رواية من روى{[5995]} طلحة بالخفض كأنه قال أعظم{[5996]} طلحة{[5997]} ثم حذف أعظم{[5998]} وترك المجرور على حاله ، يتحصل فيما هو الغرض في الرجلين أربعة أقوال ، أحدها : الذي عليه الجمهور أن الفرض هنا{[5999]} الغسل ، والحجة له القراءة بالنصب . وأما القراءة بالخفض فتخرج على وجوه قد ذكرناها . والثاني : أن الفرض فيهما{[6000]} المسح ولا يجوز الغسل ، وإن مسح البعض أجزأه على قولهم . وقد ذكرنا من يقول هذا القول وحجته .
والثالث : أن فرضهما الغسل والمسح معا . والرابع : التخيير بين الغسل والمسح ، وهو مذهب بعض المتكلمين ، وإليه ذهب ابن جرير .
واختلف في الرجل يغسل رجليه ثم يلبس الخف عليهما ثم يغسل سائر أعضائه هل يمسح عليهما إن احتاج إلى ذلك على القول بالمسح ؟
فمن ير أن كل عضو من أعضاء المتوضئ يرتفع عنه الحدث بتمام غسله فإذا أكمل وضوءه ارتفع الحدث جملة وطهر للصلاة أجاز{[6001]} له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما بعد{[6002]} أن غسل رجليه للوضوء ، وإن كان ذلك قبل أن يستكمل وضوءه لأنه قد لبسهما عنده ورجلاه طاهرتان بطهر الوضوء ، وسواء أكمل وضوءه بعد ذلك أو{[6003]} لم يكمله ، وهو قول ابن القاسم . ومن رأى أنه لا يطهر عضو من أعضاء المتوضئ إلا بتمام وضوئه جملة لم يجز له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما قبل استكمال وضوئه لأنه ما لبسهما عنده ورجلاه طاهرتين بطهر الوضوء ، وسواء أكمل وضوءه{[6004]} بعد ذلك أم لم يكمله ، وهو قول سحنون . ومطرف يقول : إنه يمسح{[6005]} عليهما إن أتم{[6006]} وضوءه بعد ذلك وإن لم يتم لم يجز له أن يمسح عليهما ، فهذه ثلاثة أقوال . والقول بترك المسح أولى لعموم{[6007]} الآية{[6008]} .
قوله تعالى{[6009]} : { وأرجلكم إلى الكعبين } فعم على كل حال .
واختلف في الرجل يخلع{[6010]} أحد{[6011]} خفيه{[6012]} هل يجوز له أن يمسح على الآخر ويغسل{[6013]} المخلوع عنه{[6014]} الخف ، أم لا ؟ على قولين في المذهب . ودليل قول بأن ذلك لا يجوز قوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } {[6015]} .
واختلف في المسح على الجوربين غير{[6016]} المجلدين : فلم يجزه الأكثر . وأجازه ابن حنبل ، ودليل القول الأول{[6017]} قوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } ، فعم كل{[6018]} حائل{[6019]} . هكذا ذكر أهل مسائل الخلاف ، واحتجوا عليها بالآية على ما ذكرناه . واختلف في الرجل يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه عليهما هل يجزئ ذلك عن{[6020]} غسلهما في الوضوء أم لا ؟ فلم يجزه الأكثر من العلماء .
وأجازه{[6021]} قوم منهم الحسن بن أبي الحسن البصري وحجة{[6022]} القول الأول القراءة بالنصب{[6023]} ، وأن الغسل لا يكون في اللغة إلا مع إمرار اليد ، والقراءة بالخفض أيضا على قول من يقول المراد بذلك{[6024]} المسح باليد مع الماء ، فذكر الله تعالى المسح خاصة والمراد{[6025]} به مع الماء فلا يجوز أن يقتصر على الماء دون المسح لذلك ، وإلى نحو هذا أشار الطبري .
قوله تعالى : { إلى الكعبين } :
الكعبان اللذان إليهما حد{[6026]} الوضوء بإجماع هما{[6027]} العظمان الناتئان من جنبي{[6028]} الرجل . واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا ؟ فعن مالك في ذلك روايتان{[6029]} . والقول فيهما كالقول في المرفقين ، وقد ساق بعضهم هذا في مسائل الخلاف ، فقال : اختلف عنه{[6030]} - يعني عن مالك- في الكعبين فروي{[6031]} أنهما اللذان في ظهر القدمين عند معقد الشراك . وروى أنهما اللذان من جانبي الساق ، وهو{[6032]} الذي اختار عبد الوهاب ، وبه قال الشافعي . ولو كان الكعبان هما الناشزان في ظهر{[6033]} القدم لقال تعالى : " إلى الكعوب " ، كما قال إلى المرافق ؛ فقوله تعالى : { إلى الكعبين } ، فيه دليل على{[6034]} أنه إنما{[6035]} أراد الكعبين الذين في كل رجل ولا يكونان كما قدمنا . وقد جمعت هذه الآية من فرائض الوضوء أربعة فلا خلاف فيها . واختلف في أربعة أخرى ؛ فمن ذلك الموالاة في الأعضاء وهو الذي يسميه{[6036]} الفقهاء الفور ، وفيه ثلاثة{[6037]} أقوال ، فقيل : هو فرض ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة وعلى هذا يحمل بعض{[6038]} من المتأخرين مذهب مالك . وقيل : هو سنة ، وهو المشهور من المذهب . وقيل : فرض في المغسول ، وسنة في الممسوح ، وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايته عن مالك . ودليل إيجاب الموالاة{[6039]} قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } {[6040]} الآية ، والأمر المطلق على الفور ؛ لأن الخطاب بصيغة الشرط والجزاء ، ومن حق الجزاء أن{[6041]} لا يتأخر عن جملة{[6042]} الشر ط .
وتطهير جملة الأعضاء جزاء الشرط الذي{[6043]} هو القيام للصلاة ، فوجب أن لا يتأخر شيء منه عنها{[6044]} . ومن ذلك الترتيب اختلف فيه ، فالمشهور عن مالك أنه سنة ، وقيل{[6045]} : أنه فرض . وحكاه{[6046]} أبو مصعب عن أهل المدينة . ومعلوم أن مالكا منهم ، وهو قول الشافعي ، فمن أوجبه راعى ترتيب الآية ورآه واجبا . والحجة لمن لم يوجبه{[6047]} أن{[6048]} " واو " النسق في الآية لا تعطي رتبة ، وإنما هي للجمع دون الاشتراك والترتيب . واسم الغسل ينتظم لمن{[6049]} رتب ولمن{[6050]} لم يرتب . وقال أبو الحسن : ظاهر قوله : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } الآية يقتضي الأجزاء قدم المتوضئ أو أخر ، فرق أو والى ، على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو مذهب أكثر العلماء رحمهم الله تعالى{[6051]} . واعتبار الموالاة{[6052]} إنما يتلقى{[6053]} من دليل زائد ، وليس في الأمر ما يقتضي الفور ، ولا ترتيب بعض المأمورات على بعض ، إلا أن الشافعي يوجب الترتيب من حيث أدرج في الآية الممسوح من بين المغسولات{[6054]} ، وأن ذلك لا يكون إلا عن قصد ترتيب الأشياء على النسق المذكور ، ومن ذلك النية . وقد تقدم الكلام عليها . و{[6055]} من ذلك الماء المطلق وهو الذي لم يتغير أحد أوصافه بشيء حل فيه{[6056]} طاهر أو نجس ، واختلف إذا خالط{[6057]} الماء شيء{[6058]} طاهر ولم يغيره والماء{[6059]} يسير{[6060]} ، فالمشهور من المذهب أنه ماء مطلق غير مضاف ، وذهب أبو الحسن القابسي إلى أنه مضاف لا يجوز الوضوء به{[6061]} ، ولا إزالة النجاسة به{[6062]} . وظاهر قوله تعالى : { فلم تجدوا ماءا } دليل على جوازه .
واختلف أيضا{[6063]} إذا خالطت{[6064]} الماء نجاسة{[6065]} ولم تغيره على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه ماء مطلق طاهر مطهر . والثاني{[6066]} : أنه نجس . والثالث : الفرق بين الماء اليسير والكثير . والمشهور في{[6067]} المذهب أن تلك المخالطة لا تؤثر فيه ، وأنه ماء مطلق . ودليله قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهي رواية المدنيين عن مالك ، والثانية رواية المصريين . والثالثة رواية ابن نافع عن مالك{[6068]} ، وهو مثل قول أهل العراق . والدليل على فساده حديث بئر بضاعة{[6069]} ، وقول{[6070]} النبي{[6071]} صلى الله عليه وسلم{[6072]} : " الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه ) {[6073]} .
واختلف في الماء أيضا إذا خالطه طاهر ينفك عنه فغيره{[6074]} : فالمشهور في المذهب أنه طاهر إلا أنه لا{[6075]} يرفع الحدث ولا يزيل النجاسة . وذهب أبو حنيفة إلى أنه طاهر مطهر على أصله في إجازة الوضوء بالنبيذ ، و{[6076]} على أصله في{[6077]} أن كل ما أزال{[6078]} العين من النجاسة رفع حكمها . والحجة لمنع{[6079]} الوضوء به{[6080]} قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } فأطلق . و{[6081]} الماء المتغيّر{[6082]} لا يقال له{[6083]} ماء بإطلاق ، وإنما يقال له{[6084]} ماء على صفة كذا{[6085]} .
واختلف إذا تغير الماء بطول المكث ؟ فقيل : لا يجوز الوضوء به . والجمهور على جوازه لأن هذا متغير بما لا ينفك عنه ، فهو ماء مطلق فجاز{[6086]} الوضوء به . واختلف في الوضوء بماء البحر على ثلاثة أقوال : الكراهة{[6087]} ، والمنع ، والجواز ، وهو المشهور . ودليل الجواز قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } . وكذلك{[6088]} اختلف في الماء المسخن{[6089]} ، فكرهه مالك ، وأجازه الجمهور ، لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماءا } والمسخن يطلق{[6090]} عليه اسم الماء ، والأصل في هذه المسائل أن كل{[6091]} ما ينطلق عليه اسم{[6092]} الماء ولا يحتاج{[6093]} إلى تقييد ، فهو داخل تحت قوله : { فلم تجدوا ماء } وبهذا يبطل قول أبي حنيفة في إجازته الوضوء بنبيذ التمر ، خلافا لمالك والشافعي رحمهما الله{[6094]} . وقد اختلف فيمن يبل يديه بالماء{[6095]} ويمرهما على أعضاء الوضوء هل يجزيه ذلك أو يلزم نقل الماء إلى أعضاء الوضوء ولا يجتزئ{[6096]} بالبلل ؟ والمشهور{[6097]} من{[6098]} المذهب النقل . وحكي عن أبي يوسف أنه قال : إن مسح الأعضاء بالماء كالمسح بالدهن أجزأه{[6099]} . وحكى قريب من هذا عن بعض التابعين ، أنه قال{[6100]} : ما عهدناهم يلطمون وجوههم بالماء ، وهو فاسد ، لأن الواجب الغسل ، وهذا ليس بغسل ، وقد قال تعالى : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم } ، ففرق بين المسح والغسل . وفي الذي قالوه بطلان الفرق بينهما . وفي المذهب من هذا النوع مسألة يختلف فيها وهي{[6101]} : إذا أصاب الإنسان{[6102]} مطر ، فشمل أعضاءه ، ولم يكن{[6103]} ليصير{[6104]} في يديه منه{[6105]} ما{[6106]} يكون بنقله إلى أعضائه غاسلا لهما ، أو ماسحا{[6107]} لما يمسح منهما{[6108]} ، وأراد أن{[6109]} يغسل كل عضو ، بما صار إليه من المطر ، هل يجوز ذلك أم لا ؟ فيه{[6110]} قولان ، أحدهما : أنه لا يجوز أن يمسح بيديه على رأسه بما{[6111]} أصابهما من ماء المطر دون أن ينقل إليهما ماء المطر{[6112]} بيديه ، وهو قول ابن حبيب ، وحكاه عن{[6113]} ابن الماجشون ، وهو دليل قول سحنون . والثاني : أنه جائز ، وهو الذي يأتي على مذهب{[6114]} ابن القاسم في الذي توضأ وأبقى رجليه فخاض نهرا{[6115]} ، فغسل رجليه . ففيه أن ذلك يجزيه إذا نوى به{[6116]} الوضوء{[6117]} ، وإن كان لم ينقل إليهما الماء . فعلى هذا يأتي الخلاف أيضا فيمن توضأ وهو منغمس في الماء ، والأظهر الجواز في هذه المسألة ؛ لأن هذا غسل ، وإن لم ينقل{[6118]} الماء ، بل هو أكثر من نقل الماء . وليس في اللغة ما يدفع{[6119]} أن يسمى هذا غسلا . وكذلك اختلف فيمن غسل ما يمسح هل يجزيه أم لا ؟ ووجه الجواز{[6120]} أنه مسح وزيادة . وقد استنبط أصحاب أبي حنيفة من هذه الآية أن الاستنجاء لا يجب ، لأنه تعالى لما{[6121]} قال : { إذا قمتم إلى الصلاة } كان الحدث مضمرا فيه . والتقدير إذا قمتم إلى الصلاة{[6122]} محدثين . قال في نفس{[6123]} الآية : { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء } فلم يوجب علينا{[6124]} أكثر من المذكور . وذلك يدل على أنه إذا أتى بالمذكور استباح به{[6125]} الصلاة ، وهذا ضعيف ، لأنه{[6126]} تعالى قال : { فاغسلوا } ، فذكر ما لا يظهر أثر الخارج في غسله{[6127]} ، وهو أعضاء الوضوء فإنما ذكر تعالى حكم الوضوء خاصة . وأما إزالة النجاسات{[6128]} فإن حكمها مأخوذ من موضع آخر ، وليس يقتضي بيان{[6129]} حكم الوضوء بيان حكم شرائط الصلاة{[6130]} كلها ، فإن الصلاة{[6131]} موقوفة إجماعا على ستر العورة ، ولا ذكر لها في هذه{[6132]} الآية ، فكذلك{[6133]} هي موقوفة على طهارة البدن والثوب{[6134]} . ولم يكن السكوت عنهما مانعا من اشتراط السكوت{[6135]} عنه{[6136]} في آخر الفعل .
وقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } :
هذه{[6137]} الآية أصل في وجوب الطهارة من{[6138]} الجنابة ، وقوله تعالى : { فاطهروا } أمر بالاغتسال بالماء . واختلف في الخطاب بهذه الآية لمن هو ؟ فقيل : هو للواجد الماء{[6139]} خاصة{[6140]} . وقيل : هو للواجد{[6141]} الماء ، وغير{[6142]} الواجد له{[6143]} . وعلى هذا الخلاف في الجنب ، هل يجوز أن يتيمم إذا عدم الماء أم لا ؟ وقد مر الكلام عليه في سورة النساء .
واختلفوا في الجنب يغتسل ثم يخرج منه بقية الماء{[6144]} هل عليه غسل أم لا ؟ فعندنا أنه لا غسل عليه لخروجه بغير لذة . ولا فرق أن يخرج قبل البول أو بعده . وذهب الأوزاعي إلى أنه إن خرج بعد البول فلا غسل عليه ، وإن خرج قبل البول{[6145]} فعليه الغسل . وقيل : يغتسل كيف كان وهو قول{[6146]} الشافعي ، و{[6147]} الذي استدل به الشافعي{[6148]} قوله{[6149]} تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } {[6150]} .
وقد استنبط من أوجب المضمضة والاستنشاق من قوله تعالى{[6151]} : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ، وأنهما{[6152]} فرض علينا{[6153]} لأن قوله تعالى{[6154]} : { فاطهروا } عموم ، ومن اغتسل و{[6155]} لم يتمضمض إنما{[6156]} هو مطهر لبعض جسده{[6157]} ، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع ، وهذا باطل لأن الله تعالى لم يذكر موضع الطهارة أصلا بلفظ يقتضي عموم البدن ، ولا بلفظ يخالفه ، وإنما قال : { فاطهروا } وليس فيه ما يوجب{[6158]} خصوصا أو عموما .
وقوله تعالى{[6159]} : { فاغسلوا وجوهكم } الآية .
أمر الله تعالى بغسل هذه الأعضاء من الوضوء ، ولم يوقت مرة ولا مرتين{[6160]} ولا ثلاثا . وقد اختلف{[6161]} الآثار عن{[6162]} النبي صلى الله عليه وسلم في التوقيت ، ومذهب مالك رحمه الله{[6163]} الإسباغ{[6164]} . وأما الزيادة عليه ففضل مرغب{[6165]} فيه : وهل ذلك مخافة أن يكون منه شيء أم لا ؟ فيه نظر ، وقد مر{[6166]} الكلام على بقية أحكامه{[6167]} في سورة النساء فأغنى عن إعادته .