/م37
وذكر في الآية التالية دليل ثالث على أصالة القرآن ،وخاطبت الذين يدعون أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد افترى هذا القرآن على الله ،بأنّكم إِن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من مثله ،واستعينوا في ذلك بمن شئتم غير الله ،ولكنّكم لا تستطيعون فعل ذلك أبداً ،وبهذا الدليل يثبت أن القرآن من وحي السماء ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إِن كنتم صادقين ) .
إِنّ هذه الآيات من جملة الآيات التي تبيّن إِعجاز القرآن بصراحة ،لا إِعجاز كل القرآن فحسب ،بل حتى إِعجاز السورة الواحدة ،وقد خاطبت كل العالمينبدون استثناءبأنّكم إن كنتم معتقدين بأنّ هذه الآيات ليست من الله فأتوا بمثله ،أو بسورة منه على الأقل .
وكما بيّنا في المجلد الأوّل في ذيل الآية ( 23 ) من سورة البقرة ،فإِنّ آيات القرآن تتحدى أحياناً أن يؤتى بمثل كل القرآن ،وأحياناً بعشر سور ،وأحياناً بسورة واحدة ،وهذا يوضح أنّ جزء القرآن وكلَّه معجز .ولمّا لم تعين الآية سورة معينة فإِنّها تشمل كل سورة من القرآن .
طبعاً لاشك أنّ إِعجاز القرآن لا ينحصر في جوانب الفصاحة والبلاغة وحلاوة البيان وكمال التعبيرات كما ظن ذلك جماعة من قدماء المفسّرين ،بل إِن جانب الإِعجاز يتمثل أيضاً إِضافةً لما مر في بيان المعارف الدينية ،والعلوم التي لم تكن معروفة حتى ذلك اليوم ،وبيان الأحكام والقوانين ،وذكر تأريخ السابقين من دون أي خطأ أو تلبس بخرافة ،وعدم وجود الاختلاف والتضادّ فيه{[1725]} .
مظاهر وتجليات جديدة من إِعجاز القرآن:
ممّا يلفت النظر أنّ مظاهر جديدة من إِعجاز القرآن تتّضح مع مرور الزمن ،حيث لم تكن تجلب الانتباهسابقاًولا يُهتم بها ،ومن جملتها المحاسبات الكثيرة التي أجريت على كلمات القرآن بواسطة العقول الإلكترونية ،والتي أثبتت أن لكلمات وفقرات القرآن وعلاقتها بزمن النزول خصوصيات جديدة ،وما تقرؤونه أدناه نموذج منها:
إِنّ تحقيقات بعض العلماء والمحققين أدت إِلى كشف روابط معقدة ومعادلات حسابية دقيقة جدّاً في آيات القرآن حتى أنّها جمعت بين الحيرة واليقين في وجود مثل هذا النظام العلمي في بناء القرآن ،وذلك عن طريق التحقيق الإِحصائي والرّياضي لكشف القواعد الدقيقة والمعادلات الرياضية للآيات الشريفة والتي تذكرنا من ناحية الأهمية والمعرفة باكتشاف نيوتن للجاذبية .
أحد علماء القرآن بدأ عمله من هذه المسألة البسيطة ،وهي أنّ الآيات النازلة في مكّة قصيرة ،والآيات التي نزلت في المدينة طويلة ،وهذه مسألة طبيعية ،فإِنّ كل كاتب أو خطيب بليغ يغير من طول جمله ونغمات كلماته حسب موضوع الحديث ،فمثلا تكون جمل التوصيف قصيرة ،أمّا مسائل التحليل والاستدلال فهي طويلة ...وإِذا كان الكلام لغرض تحريك العواطف أو للانتقاد او لبيان الأُصول العقائدية العامّة ،فإنّ العبارة تكون قصيرة وبأسلوب الشعارات ،أمّا إذا كان بداية قصّة أو لبيان الكلام في استخلاص النتائج الأخلاقية و ...فإِنّ الأسلوب يكون هادئاً والعبارات طويلة .
إِنّ المسائل التي طرحت في مكّة هي من النوع الأوّل ،بينما المسائل التي طرحت في المدينة من النوع الثّاني ،فما نزل في مكّة كان بداية ثورة وبيان للمبادئ العامّة ،الإِعتقادية والإِنتقادية ،والذي نزل في المدينة كان لبناء مجتمع وبيان مسائل حقوقية وأخلاقية وقصص تاريخية واستخلاص النتائج الفكرية والعلمية .
وبما أنّ القرآن نزل بلغة البشر فلابدّ من أن يتبع السبك الجميل والبليغ في كلام البشر ،وفي النتيجة مراعاة قصر وطول الآيات بما يناسب المفاهيم ،وبالتالي يجب أن لا يكون القصر والطول اعتباطياً وعشوائياً ،بل يبدأ حسب قاعدة علمية دقيقة من الآيات القصيرة ،ويسير على وتيرة تصاعدية واحدة نحو الآيات الطويلة ،وعلى هذا الأساس يجب أن تكون كل آية أقصر من الآية التي نزلت بعد سنة ،وأطول من الآية التي نزلت قبلها بسنة ،وأن يكون مقدار الزيادة محسوباً ودقيقاً ،وعلى هذا فلمّا كان الوحي قد نزل خلال 23 سنة ،فيجب أن يكون لدينا 23 طولاً في الآيات كمعدل ،وبناء على هذه القاعدة يمكن أن يكون لدينا 23 عموداً بحيث تقسم كل الآيات حسب الطول في هذه الأعمدة ،والآن من أين نستطيع أن نعلم أن هذا التقسيم صحيح ؟
نحن نعلم سبب نزول بعض الآيات بواسطة الرّوايات الشريفة التي ذكرتبصراحةفي أية سنة نزلت هذه الآيات ،والبعض الآخر يمكن تعيينه من خلال مفاهيمه ،فمثلا: الآيات التي تبيّن بعض الأحكام كتغيير القبلة ،وتحريم الخمر ،وتشريع الحجاب والزكاة والخمس ،أو الآيات التي تتحدث عن الهجرة ،فإِنّ سِنّي تعيين هذه الأحكام معلومة .
وبتعجب مثير للدهشة نرى أن هذه الآيات التي يعلم عام نزولها ،قد اجتمعت في نفس الأعمدة التي فرضت أنّها أخذت حسب الطول في هذا الجدول .«فتدبر جيداً »
والأعجب هو ملاحظة بعض الاستثناءات في موردين أو ثلاثة ،بمعنى أن سورة المائدة مثلا آخر السور الكبار النّازلة ،في حين أن عدّة آيات منها يجب أن تكون حسب المعادلةقد نزلت في السنين الأُولى !وبعد التحقيق في متون التفاسير والرّوايات الإِسلامية وأقوال المفسّرين المعتبرين ،لوحظ أنّهم قالوا: إِنّ هذه الآيات القليلة نزلت في البداية ،لكن وضعت في سورة المائدة حسب أمر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وبهذه الطريقة يمكن تعيين سنة نزول كل آية حسب هذا الحساب الرياضي ،وكتابة القرآن حسب سنة النزول أيضاً .
أي أديب وبليغ في العالم يستطيع أن يعين سنة كتابة كل جملة من خلال طول العبارة ؟خاصّة وأنّه ليس نصاً كتابياً كأي أثر علمي أو أدبي جلس كاتبه مدّة معينة وكتبه و ليس كتاباً ألفه كاتبه في موضوع ما ،بل يحتوي على مسائل مختلفة نزلت بالتدريج حسب احتياج المجتمع ،أو هي جواب لمسائل مطروحة من الحوادث والمسائل طرحت على مدى مسيرة الدعوة وإبلاغ الرسالة ،وقد بيّنت من قبل القائد ،ثمّ جمعت ونظمت .
بل إِنّ موسيقى ولحن لغات وكلمات القرآن الخاصّةأيضاًمعجزة نادرة في نوعها كما ذكر ذلك بعض المفسّرين .وقد ذكروا شواهد مختلفة جميلة على هذا الموضوع ،ومن جملتها الحادثة أدناه التي وقعت لسيد قطب المفسّر المعروف:
يقول في ذيل الآية محل البحث:
«ولن أذكر نماذج ممّا وقع لغيري ولكنّي أذكر حادثاً وقع لي وكان معي شهود ستة ،وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً ..كنّا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ،من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم ..وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة !واللّه يعلمأنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة ،حاول أن يزاول تبشيره معنا !...وقد يسر لنا قائد السفينةوكان إنجليزياًأن نقيم صلاتنا ،وسمح لبحارة السفينة طهاتها وخدمهاوكلّهم نوبيون مسلمونأن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة » وقت الصلاة !وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً ،إذ كانت المرّة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة ..وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ،والركاب الأجانبمعظمهممتحلقون يرقبون صلاتنا !..وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القدّاس » !!!فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا !ولكن سيدة من هذا الحشدعرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو » وشيوعيته ! كانت شديدة التأثر والانفعال ،تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها ،جاءت تشدّ على أيدينا بحرارة ؛وتقول:في إنجليزية ضعيفةإنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح !..وليس هذا موضع الشاهد في القصّة ..ولكن ذلك مان في قولها: أي لغة هذه التي كان يتحدث بها «قسيسكم » !فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة » إلاّ قسيسأو رجلالدينكما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة !وقد صححنا لها هذا الفهم !.وأجبناها ..فقالت: إنّ اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب ،وإنّ كنت لم أفهم منها حرفاً ..ثمّ كانت المفاجأة الحقيقة لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه ..إنّ الموضوع الذي لفت حسي ،هو أن «الإمام » كانت ترد في أثناء كلامهبهذا اللغة الموسيقيةفقرات من نوع آخر غير بقية كلامه !نوع أكثر موسيقية كما لو كانالإماممملوءاً من الروح القدس ! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها !
تفكرنا قليلاً ،ثمّ أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة!وكانتمع ذلكمفاجأة تدعو إلى الدهشة ،من سيدة لا تفهم ممّا نقول شيئاً !{[1726]} .
/خ40