والآية الأُخرى تؤكّد على نظامهم الاقتصادي ،فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال ،فهنا يدعوهم إلى إِيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: ( ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ) .
ويجب أن يحكم هذا الأصل «وهو إقامة القسط والعدل ،وإِعطاء كل ذي حقّ حقه » على مجتمعكم بأسره .
ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) و«البخس » ومعناه في اللغة التقليل ،وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً .ويطلق على الأراضي المزروعة دون سقي «إِنّها بخس » لأنّ ماءها قليل ،حيث تعتمد على ماء المطر فحسب ،أو أنّ هذه الأراضي قليلة الإِنتاج بالنسبة إلى الأراضي الزراعية الأُخرى .
وإذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة إلى رعاية جميع الحقوق الفردية والاجتماعية ولجميع الملل والنحل ،ويظهرُ «بخس الحق » في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحياناً ،والتعاون وإِعطاء قرض معين ( كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا ) .
ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً أُخرى أوسع ويقول لقومه: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .
فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والاعتداء على حقوق الآخرين ،والفساد أيضاً يقع في الإِخلال بالموازين والمقاييس الاجتماعية ،ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم ،وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالاعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس .
وجملة ( لا تعثوا ) معناها «لا تفسدوا » بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع .
إِنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء ،وهي أنّه بعد الاعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح ،يُنظر إلى الاقتصاد السليم بأهمية خاصّة ،كما تدلاّن على أنّ الإِخلال بالنظام الاقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع .