/م84
{ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} لا ينسين القارئ ما تقدم من حكمة تكرار النداء بلقب قومي من الاستعطاف ، وهذا أمر بالواجب بعد النهي عن ضده لتأكيده ، وتنبيه لكون عدم التعمد للنقص لا يكفي لتحري الحق ، بل يجب معه تحري الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص ، وإن كان الثقة به لا تحصل أو لا تتيقن إلا بزيادة قليلة ، فهي قد تدخل في باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .وتعمدها في الكيل أو الوزن للناس سخاء فهو فضيلة مندوب ، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة محظور .
{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم} هذا أعم مما سبقه فإن البخس يشمل النقص والعيب في كل شيء ، يقال:بخسه [ من باب نفع] حقه وبخسه ماله وبخسه علمه وفضله .والأشياء جمع شيء وهو أعم الألفاظ وجمعه يشمل ما للأفراد وما للجماعات والأقوام من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بالحدود الحسية ومن حقوق مادية ومعنوية ، وقد فصلنا هذا وبينا العبرة فيه بتعامل أهل الشرق مع أهل الغرب في هذا العصر في تفسير سورة الأعراف [ 8:58] فتراجع في الجزء الثامن .
{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي ولا تفسدوا فيها حال كونكم متعمدين للإفساد ، يقال عثي يعثي [ كرضي يرضى] عثيا بكسرتين وتشديد الياء- وعثا يعثو [ كغزا يغزو] عثوا بضمتين والتشديد أيضا – أفسد ، وهذا نهي آخر عام يشمل غير ما تقدم كقطع الطرق وتهديد الأمن والخروج على السلطان وقطع الشجر وقتل الحيوان ، وقيده بقصد الإفساد لأن بعض ما هو إفساد في الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين كالذي يقع في الحرب من قطع الأشجار ، أو فتح سدود الأنهار ، أو إحراق بعض الأشياء بالنار ، ومنه خرق الخضر للسفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر لمنع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته .والإفساد تعطيل يشمل مصالح الدنيا وصفات النفس وأخلاقها وأمور الدين ، وكل هذه المفاسد فاشية في هذا العصر .