وأمّا الأمر الثّالث الذي ذكره القرآن حاكياً على لسان هود منتقداً به قومه ،فهو قوله: ( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) .
«المصانع » جمع «مصنع » ومعناه المكان أو البناء المجلّل المحكم ،والنّبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائِمة ،بل يريد أن يقول لهم: إنّكم غارقون في أمواج الدنيا ،ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة !...فلم تتخذوا الدنيا على أنها دار ممر ،بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم ...
أجل ،إنّ مثل هذه المباني التي تُذهل أهلها ،وتجعلهم غافلين عن اليوم الآخر ،هي لا شك مذمومة !
و في بعض الرّوايات عن أنس بن مالك أنّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج فرأى قبة فقال: ما هذه ؟فقال له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب به وبالاعراض عنه ،فشكى ذلك إلى أصحابه وقال: والله إليّ لأنكر رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )ما أدرى ما حدث فيّ وما صنعت ؟
قالوا: خرج رسول الله فرأى قبّتك فقال: لمن هذه ؟فأخبرناه ،فرجع إلى قبّته فسواها بالأرض ،فخرج رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ها هنا قالوا: شكى إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إن كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة ،إلاّ ما لابُدّ منه »{[2936]} .
ويعرف من هذه الرّواية وما شابهها من الرّوايات نظر الإسلام بجلاء ،فكل بناء «طاغوتي » مشيد بالإسراف والبذخ ومستوجب للغفلة ...يمقته الإسلام ،ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه الأبنية التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن الله ،ولاسيما في محيط يسكن فيه المحرومون والمستضعفون ...
إلاّ أن ما ينبغي التنويه به ،أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا الهدف الإِنساني أبداً ،ولم يأمر بتخريب البناء ،بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف كالإِعراض وعدم الاهتمام بالبناء مثلا !...