/م85
والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ،إذ يقول تعالى: ( ولاتدع مع الله إلهاً آخر ) .
وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ،يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ،إذ بدونه يكون كل عمل زيفاً ووهماً .
وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ،وهي جميعاً تأكيد على التوحيد أيضاً .
فالأوّل قوله: ( لا إله إلاّ هو ) .
والثّاني قوله: ( كل شيء هالك إلاّ وجهه ) .
والوصف الثالث: ( له الحكم ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين .
والرابع: أن معادنا إليه ( وإليه ترجعون ) .
والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ،الذي أشير إليه في الوصف الأول !
لأنّه طالما كنّا هالكين جميعاً وهو الباقي .
وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له !
وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع !...فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره ،وأي أحد يستحق العبادة سواه !؟
والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة ( كل شيء هالك إلاّ وجهه ) تدور حول محور كلمتي «وجه » و«هالك » .
لأنّ الوجه يطلقمن حيث اللغةعلى المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل ،ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة !.
وكلمة «هالك » مشتقّة من مادة «هلك » ومعناه الموت والعدم ،فعلى هذا يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة ...وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه ،فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة ،وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة ،وليس لديها في ذاتها أي شيء ،وكلّ ما لديها فمن الله !
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل ،وحتى طبقاً لفلسفة «الحركة الجوهرية » فذاتها هي التغيير بعينه ،ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية ،فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا !.
فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآنأيضاًغير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك ،هي الذات المقدسة !
كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم ،وكما يقول القرآن: ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام ){[3119]} .
ولا يخصُّ الفناء ما على الأرض ،بل يشمل حتى أهل السماء ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض ){[3120]} .
فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأُخرى في القرآن ،غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أُخرى غير ما تقدم بيانه ،ومنها:
1أنّ المقصود من كلمة ( وجه ) هو العمل الصالح ،ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصاً لله .
وقال بعضهم: إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله ،فيكون مفهوم الآية أنّ كل شيء معدوم ذاتاً إلاّ من ناحية انتمائه إلى الله !
وقال بعضهم: المراد بالوجه هو الدين ،فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها باطلة سوى دين الله .
وجملة ( له الحكم ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية .وهو تأكيد على التّفسير السابق !.
كما أن جملة ( واليه ترجعون ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه !وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى{[3121]} .
وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفاً لا نجد بينها منافاةً في الحقيقة !...لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب !فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والأبدية .
فدين الله الصادر منه أبديّ ،والعمل الصالح الذي له أبديّ ...والقادة الإلهيون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود .
والخلاصة ،كل ما هو مرتبط باللهولو بنحو من الأنحاءفهو غير فان «فلاحظوا بدقّة » .
/خ88
آمين ربّ العالمين
انتهاء سورة القصص