التّفسير:
حول الارتباط بين الآيات القرآنية:
الآيات السابقةكما عرفتتحدثت حول معركة «أُحد » وحوادثها ووقائعها ،والدروس والعبر المختلفة التي تعلمها منها المسلمون ،غير أن هذه الآيات الثلاث ،والآيات الست اللاحقة بها تحتوي على سلسلة من البرامج الاقتصادية ،والاجتماعية ،والتربوية ،ثمّ يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع ،حديثه حول معركة «أُحد » ووقائعها .
ويمكن أن يكون هذا النوع من الحديث والبيان مبعث استغراب ودهشة للبعض ،إلاّ أن الانتباه إلى مبدأ أساسي يوضح حقيقة هذا الأمر ،ويكشف الغطاء عن سر هذا الأُسلوب .وذلك المبدأ هو: إن القرآن ليس كتاباً كبقية الكتب ذات النمط الكلاسيكي الذي يعتمد نظام الفصول والأبواب الخاصة ،بل هو كتاب نزل «نجوماً » وبصورة تدريجية طوال ثلاثة وعشرين عاماً ،وذلك طبقاً للاحتياجات التربوية المختلفة ،وفي أماكن وأزمنة مختلفة ،فيوم حدثت معركة أُحد ووقائعها نزلت الآيات التي تتحدث عمّا يرتبط بهذه المعركة من برامج وقضايا حربية ،ويوم كانت الحاجة تتطلب بيان بعض البرامج والتعاليم الاقتصادية كالموقف من الربا ،أو بعض المسائل الحقوقية كأحكام الزوجية أو بعض القضايا التربوية والأخلاقية كالتوبة كانت تنزل الآيات التي تتناول هذه الأُمور .
فيستنتج من هذا أنه قد لا يوجد أي ارتباط خاص بين بعض الآيات وبين ما قبلها أو ما بعدها ،وليس من الضروري أن نبحث عن مثل هذا الارتباطكما يحاول بعض المفسّرين ذلكأو أن نتكلف افتعال ذلك بين قضايا لم يرد الله سبحانه الاتصال والارتباط بينها ،لأن مثل هذا العمل لا يتفق مع روح القرآن وكيفية نزوله في الحوادث المختلفة ،والمناسبات المتنوعة وحسب الاحتياجات والظروف المنفصلة .
على أنه لا ريب في أن جميع السور والآيات القرآنية مرتبطة ومترابطةعلى وجهوهو أن جميعها تؤلف برنامجاً كاملاً ومنهاجاً متكاملاً مترابطاً لصنع الإنسان وصياغته ،وتربيته بأفضل تربية وصياغة وأسماها ،كما أنها بمجموعها نزلت لإيجاد مجتمع فاضل ،واع متقدم في جميع الأبعاد والجوانب المادية والمعنوية .
وبما قلناه يعلل عدم ارتباط الآيات التسع التي أشرنا إليها مع ما تقدمها أو يلحقها من الآيات في هذه السورة المباركة .
تحريم الرّبا في مراحل:
كلنا يعرف أن أُسلوب القرآن في مكافحة الانحرافات الاجتماعية المتجذرة في حياة الناس يعتمد معالجة الأُمور خطوة فخطوة ،فهو أولاً يهيئ الأرضية المناسبة ،ويُطلع الرأي العام على مفاسد ما يطلب محاربته ومكافحته ،ثمّ بعد أن تتهيأ النفوس لتقبل التحريم النهائي يعلن عن التحريم في صيغته القانونية النهائية ( ويتبع هذا الأُسلوب خاصة إذا كان ذلك الأمر الفاسد ممّا استشرى في المجتمع ،وكانت رقعة انتشاره واسعة ) .
كما أننا نعلم أيضاً أن المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصاباًبشدةبداء الربا ،حيث كانت الساحة العربية ( وخاصة مكة ) مسرحاً للمرابين .و قد كان هذا الأمر مبعثاً للكثير من المآسي الاجتماعية ،ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء أُسلوب المراحل ،فحرم الربا في مراحل أربع:
1يكتفي في الآية 39 من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا إذ قال سبحانه وتعالى: ( وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعِفون ) .
بهذا يكشف عن خطأ الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم ،في حين أن إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله هو الذي يضاعف الثروة .
2يشيرضمن انتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدةإلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات ،إذ يقول في الآية 161 من سورة النساء: ( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ) .
3يذكر في الآية الحاضرةكما سيأتي تفسيرها المفصلحكم التحريم بصراحة ،ولكنه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا ،وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط .
4وأخيراً أعلن في الآيات 275 إلى 279 من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا ،واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه .
التحريم في الآية الحاضرة:
قلنا إن الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله ( أضعافا مضاعفة ) .
والمراد من «الربا الفاحش » هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية ،بمعنى أن تُضم الزيادة المفروضة أولاً على رأس المال ثمّ يصبح المجموع مورداً للربا ،بمعنى أن الزيادة ثانياً تقاس بمجموع المبلغ ( الذي هو عبارة عن رأس المال والزيادة المفروضة في المرة الأُولى ) ثمّ تضم الزيادة المفروضة ثانياً إلى ذلك المبلغ ،وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع{[651]} .
وهكذا يصبح مجموع رأس المال والزيادة في كلّ مرّة رأس مال جديد تضاف عليه زيادة جديدة بالنسبة ،وبهذا يبلغ الدين أضعاف المبلغ الأصلي المدفوع إلى المديون حتّى يستغرق كلّ ماله .
ولهذا قال القرآن الكريم: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ) .
ويستفاد من الأخبار والروايات أن الرجلفي الجاهليةإذا كان يتخلف عن أداء دينه عند الموعد المقرر طلب من الدائن أن يضيف الزيادة على المبلغ ثمّ يؤخره إلى أجل آخر ،وهكذا حتّى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون .
وهذا هو السائد بعينه في عصرنا الحاضر ويفعله المرابون الكبار دون رحمة .
ولاشكّ أن مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء ،فلا يمكن الإرتداع عنه الإّ بتقوى الله ،ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله: ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .