التّفسير
انظر إلى آثار رحمة الله:
قلنا: إن في هذه السورة قسماً مهمّاً «يستلفت النظر » من دلائل التوحيد وآيات الله ،مبيناً في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله: ( ومن آياته ) قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة ،والآية الأُولى من الآيات أعلاه هي سابع الآيات التي مرت .وآخرها .
وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح ،فبيان دلائل التوحيدأيضاًتأكيداً على ذلك !
تقول هذه الآية: ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) فهي تمضي سابقةً للغيث في حركتها ،فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى ،وتغطي صفحة السماء ،ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم .
ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشراتلأهل المدن المتنعمةليست جليّة واضحة ..إلاّ أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر ،ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أُخرىوالنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها ،حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم .
وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها ،إلاّ أنّه لا يمكن تحديد كلمة «مبشرات » في هذا المضمون فحسب ،لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضاً .
فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى «الاعتدال » .
والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء .
والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات ،وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس .
كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجرإلى الإنسان ،وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضاً .
وهي كذلك تؤدي وظيفة أُخرى ،فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للإناث .
والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر .
والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء ،كأنّها فلاح مشفق ،فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يباباً .
والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة .
وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة «الماكنات » مكان الرياح ،فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها ...سرعةً وبطأً !
أجل ،أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى .
ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى: ( وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) .
أجل ،إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين ،وهي وسيلة للحمل والنقل أيضاً ،وأخيراً فهي سبب للازدهار التجاري .
وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة ( وليذيقكم من رحمته ) وإلى الثّاني بجملة ( ولتجري الفلك بأمره ) وللثالث بجملة ( ولتبتغوا من فضله )!
والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة ،الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي .
لكن لا يُعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان !فيعرفها حينذاك .فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم ،فلا يعرف الإنسان ماذا يحلّ به من بلاء ؟!
فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمةً !وعلى العكس فلو أن نسيماً عليلا هب في خلايا السجون الإنفرادية لجعلها كالفضاء الرحب «المفتوح » ،وعادةً فإنّ واحداً من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء !.
حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج ،لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين ،ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش !
يقول «الفخر الرازي » إن جملة ( وليذيقكم من رحمته ) مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل ،فهي إشارة إلى أن جميع الدنيا ونعمها لا تتجاور الرحمة القليلة ،أمّا الرحمة الواسعة ( من قبل الله ) فهي خاصة بالحياة الأُخرى !.