التّفسير
الموتى والصُّمّ لا يسمعون كلامك:
حيث أنّ الكلام كانفي الآيات السابقةعن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة ،ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمرّة والتي تجلب الضرر ،إذ يقول القرآن في هذا الصدد: ( ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرّاً لظلّوا من بعده يكفرون ) .
أُولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون ،وبعد نزوله مستبشرون ،وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيّام وابتلُوا مؤقتاً تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرأون !
على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة الله مستبشرون وعليها يشكرون ،وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون ،ولا يؤثر التغيير المعاشي والحياتي المادي في إيمانهم أبداً ،وليسوا كعمي القلوب ضعيفي الإيمان ،الذين يظهرون إيمانهم بمجرّد هبوب الريح ،ويكفرون مرّة أُخرى إذا هبت الريح بشكل آخر !
وكلمة «مصفراً » مشتقّة من «الصُفرة » على زنة «سفرة » وهي لون معروف ،ويعتقد أكثر المفسّرين أن الضمير في «رأوه » يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وتذبل على أثر هبوب الرياح المخربة .
واحتمل بعضهم أنّ الضمير يعود على السحاب ،والسحاب المصفّر طبعاً سحاب خفيف ،وهو عادة لا يحمل قطراً ،على العكس من الغيوم السود الكثيرة ،فإنّها تولد الغيث والقطر .
كما يعتقد بعضهم أنّ الضمير في «رأوه » يعود على الريح ،لأنّ الرياح الطبيعية عادة لا لون فيها ( فهي عديمة اللون ) إلاّ أن الرياح التي تهب وهي مصفرة ،فهي ريح سموم وهجير ،وفي كثير من الأحيان تحمل معها الغبار .
وهناك احتمال رابع ،وهو أنّ «المصفّر » معناه الخالي ،لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته ،يطلق على الإناء الخالي ،والبطن الخالية من الطعام ،والأوردة من الدم أنّها ( صفر ) على وزن ( سفر ) ،فعلى هذا يكون هذا التعبير آنف الذكر في شأن الرياح الخالية من القطر والغيث .
وفي هذه الصورة يعود الضمير في «رأوه » على الريح ( فلاحظوا بدقة ) .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أشهر من الجميع !
وما يستلفت النظر ،هو أنّ الرياح النافعة ذات الغيث جاءت هنا بصيغة الجمع ،ولكن على العكس منها الريح التي تجلب الضرر فقد جاءت بصيغة المفرد ،وهي إشارة إلى أنّ معظم الرياح نافعة ومفيدة ،غير أن ريح السموم هي من الحالات الاستثنائية التي تهب أحياناً في السنة مرّة أو في الشهر مرّة ..لكن الرياح المفيدة تهب دائماً ( ليل نهار ) .
أو أنّها إشارة إلى أنّ الرياح النافعة إنّما تكون كذلك ويكون لها أثرها المفيد ،إذا تتابعت ،غير أن الريح السيئة تترك أثرها عند هبوبها في المرّة الأولى .
وآخر ما ينبغي الإشارة إليه من اللطائف الضرورية في ذيل هذه الآية ،هو التفاوت ما بين ( يستبشرون ) في شأن الرياح النافعة التي ذكرتها الآية المتقدمة ،وجملة ( لظلوا من بعده يكفرون ) الواردة في الآية محل البحث .
وهذا الاختلاف أو التفاوت يدل على أنّهم يرون هذه النعم العظيمة المتتابعة التي أنعمها الله عليهم فيفرحون ويستبشرون ،غير أنّهم لو أصيبوا مرّة واحدة أو يوماً واحداً بمصيبة ،فإنّهم يضجون ويكفرون حتى كأنّهم غير تاركين للكفر ،حل بهم !.
وهذا تماماً يشابه حال أُولئك الذين يعيشون عمراً بسلامة ولا يشكرون الله ،لكنّهم إذا مرضوا ليلة واحدة بالحمى «واشتعلوا بحرارتها » فإنّهم يظهرون الكفر وهذه هي حال الجهلة من ضعفاء الإيمان ،
وكان لنا في هذا الصدد في الآية ( 35 ) من هذه السورة ،والآيتين ( 9 ) و ( 10 ) من سوره هود ،والآية ( 11 ) من سورة الحج بحوث أخر أيضاً .
وفي الآيتين التاليتينبمناسبة البحث الوارد في الآية السابقةفإن الناس يُقسمون إلى أربعة طوائف:
1طائفة «الموتى » الذين لا يدركون أية حقيقة ،وإن كانوا أحياءً في الظاهر !
2وطائفة «الصُم » الذين هم غير مستعدين للإستماع إلى الكلام الحق .
3وطائفة «العمي » الذي حُرموا من رؤية وجه الحق !
4وأخيراً طائفة المؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها ،ولهم أعين يبصرون بها ،ولهم آذان يسمعون بها .