بعد ذكر علم الله اللامحدود ،تتحدّث الآية الأخرى عن قدرته اللامتناهية ،فتقول: ( ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفس واحدة إنّ الله سميع بصير ) .
قال بعض المفسّرين: إنّ جمعاً من كفّار قريش كانوا يقولون من باب التعجّب والاستبعاد لمسألة المعاد: إنّ الله قد خلقنا بأشكال مختلفة ،وعلى مدى مراحل مختلفة ،فكنّا يوماً نطفة ،وبعدها صرنا علقة ،وبعدها صرنا مضغة ،ثمّ أصبحنا تدريجيّاً على هيئات وصور مختلفة ،فكيف يخلقنا الله جميعاً خلقاً جديداً في ساعة واحدة ؟!فنزلت الآية مورد البحث فأجابتهم .
إنّ هؤلاء كانوا غافلين في الحقيقة عن مسألة مهمّة ،وهي أنّ هذه المفاهيم كالصعوبة والسهولة ،والصغير والكبير يمكن تصوّرها من قبل موجودات لها قدرة محدودة كقدرتنا ،إلاّ أنّها أمام قدرة الله اللامتناهية تكون متساوية ،فلا يختلف خلق إنسان واحد عن خلق جميع البشر مطلقاً ،وخلق موجود ما في لحظة واحدة أو على مدى سنين طوال بالنسبة إلى قدرته المطلقة .
وإذا كان تعجّب كفّار قريش من أنّه كيف يمكن فصل الأجساد عن بعضها وإرجاع كلّ منها إلى محلّه بعد أن كانت الطبائع مختلفة ،والأشكال متغايرة ،والشخصيات متنوّعة ،وذلك بعد أن تحوّل بدن الإنسان إلى تراب وتطايرت ذرّات ذلك التراب ؟!فإنّ علم الله اللامتناهي ،وقدرته اللامحدودة تجيبهم عن سؤالهم ،فإنّه قد جعل بين الموجودات روابط وعلاقات بحيث أنّ الواحد منها كالمجموعة ،والمجموعة كالواحد .
وأساساً فانّ انسجام وترابط هذا العالم بشكل ترجع كلّ كثرة فيه إلى الوحدة ،وخلقة مجموع البشر تتّبع خلقة إنسان واحد .
وإذا كان تعجّب هؤلاء من قصر الزمان ،بأنّه كيف يمكن أن تطوى المراحل التي يطويها الإنسان خلال سنين طوال من كونه نطفة إلى مرحلة الشباب ،في لحظات قصيرة ؟!فإنّ قدرة الله تجيب على هذا التساؤل أيضاً ،فإنّنا نرى في عالم الأحياء أنّ أطفال الإنسان يحتاجون لمدّة طويلة ليتعلّموا المشي بصورة جيّدة ،أو يصبحوا قادرين على الاستفادة من كلّ أنواع الأغذية ،في حين أنّنا نرى الفراخ بمجرّد أن تخرج من البيضة تنهض وتسير ،وتأكل دونما حاجة حتّى للاُمّ ،وهذه الظاهرة تبيّن أنّ هذه الاُمور لا تعني شيئاً أمام قدرة الله عزّ وجلّ .
إنّ ذكر كون الله «سميعاً وبصيراً » في نهاية الآية قد يكون جواباً عن إشكال آخر من جانب المشركين ،وهو على فرض أنّ جميع البشر على اختلاف خلقتهم ،وبكلّ خصوصياتهم يبعثون ويحيون في ساعة واحدة ،لكن كيف ستخضع أعمالهم وكلامهم للحساب ،فإنّ الأعمال والأقوال اُمور تفنى بعد الوجود ؟!
فيجيب القرآن بأنّ الله سميع وبصير ،قد سمع كلّ كلامهم ،ورأى كلّ أعمالهم ،علاوة على أنّ الفناء المطلق لا معنى ولا وجود له في هذا العالم ،بل إنّ أعمالهم وأقوالهم موجودة دائماً .
وإذا تجاوزنا ذلك فإنّ الجملة أعلاه تهديد لهؤلاء المعاندين ،بأنّ الله سبحانه مطّلع على أقوالكم ومؤامراتكم ،بل وحتّى على ما في قلوبكم وضمائركم .