الآية التالية تأكيد وبيان آخر لقدرة الله الواسعة ،وقد وجّهت الخطاب إلى النّبي( صلى الله عليه وآله ) فقالت: ( ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل وسخّر الشمس والقمر ) لخدمة الناس وتأمين احتياجاتهم ( كلّ يجري لأجل مسمّى وإنّ الله بما تعملون خبير ) .
«الولوج » في الأصل بمعنى «الدخول » ،ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة ،حيث ينقص شيء من أحدهما تدريجيّاً ،ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة ،لتتكوّن الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة .( وليست هناك إلاّ نقطتان على سطح الأرض لا يوجد فيهما هذا التغيير التدريجي والفصول الأربعة: إحداهما: النقطة الحقيقيّة للقطب الشمالي والجنوبي حيث يكون الليل هناك ستّة أشهر ،والنهار ستّة أشهر طوال السنة ،والأخرى خطّ الاستواء الدقيق حيث يتساوى ليله ونهاره كلّ السنة ) .
أو إشارة إلى أنّ تبديل الليل بالنهار والنهار بالليل لوجود الغلاف الجوّي لا يحدث بصورة مفاجئة فيتعرّض الإنسان وكلّ الموجودات الحيّة للأخطار المختلفة حينئذ ،بل إنّ أشعّة الشمس تتوغّل من حيث طلوع الفجر في أعماق الظلام أوّلا ،ثمّ يتّسع ويزداد ضوء النهار حتّى يعمّ كلّ أرجاء السماء ،وعلى العكس تماماً ممّا يحدث عند انتهاء النهار ودخول الليل .
وهذا الانتقال التدريجي والمنظّم بدقّة متناهية من مظاهر قدرة الله تعالى .
ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان ،ويمكن أن يجتمعا في معنى الآية وتفسيرها .
أمّا في مورد تسخير الشمس والقمر وسائر الكواكب السماوية للبشر ،فإنّ المرادوكما قلنا سابقاً أيضاًتسخيرها في سبيل خدمة الإنسان ،وبتعبير آخر فإنّ اللام في ( سخّر لكم ) لام النفع لا الاختصاص ،وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد في شأن الشمس والقمر ،والليل والنهار ،والأنهار والبحار والسفن ،وكلّ هذه مبيّنة لعظمة شخصيّة الإنسان ،وسعة نعم الله عليه حيث أنّ كلّ الموجودات الأرضية والسماوية مسخّرة ومطيعة له بأمر الله تعالى ،ومع كلّ هذا التسخير فليس من الإنصاف أن يعصي الله سبحانه ولا يطيع أوامره{[3273]} .
وجملة ( كلّ يجري لأجل مسمّى ) إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمرّ إلى الأبد ،بل إنّ له نهاية بانتهاء الدنيا ،وهو ما ذكر في سورة التكوير: ( إذا الشمس كوّرت وإذا النجوم إنكدرت ...) .
إنّ ارتباط جملة ( إنّ الله بما تعملون خبير ) بهذا البحث سيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفاً ،لأنّ الله الذي جعل الشمس والقمر العظيمين خاضعين لنظام دقيق ،وعاقب بين الليل والنهار بذلك النظام الخاصّ آلاف وملايين السنين ،كيف يمكن أن تخفى عليه أعمال البشر ؟نعم ..إنّه يعلم الأعمال ،وكذلك يعلم النيّات والأفكار .