وقد بيّنا نظير هذه الرواية عن طريق آخر في ذيل الآية ( 109 ) من سورة الكهف .
وعلى كلّ حال ،فإنّ القرآن الكريم ولأجل تجسيد علم الله اللامتناهي يقول: ( ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم ) .
«يمدّه » من مادّة ( المداد ) وهي بمعنى الحبر أو المادّة الملوّنة التي يكتبون بها ،وهي في الأصل من ( مدّ ) بمعنى الخطّ ،لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم .
ونقل بعض المفسّرين معنى آخر لها ،وهو الزيت الذي يوضع في السراج ويسبّب إنارة السراج .وكلا المعنيين في الواقع يرجعان إلى أصل واحد .
«الكلمات » جمع «كلمة » ،وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدّث ويتكلّم بها الإنسان ،ثمّ اُطلقت على معنى أوسع ،وهو كلّ شيء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب ،ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كلّ منها ذات الله المقدّسة وعظمته ،فقد أطلق على كلّ موجود ( كلمة الله ) ،واستعمل هذا التعبير خاصّة في الموجودات الأشرف والأعظم ،كما نقرأ في شأن المسيح في الآية ( 171 ) من سورة النساء ( إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ) ثمّ استعملت كلمات الله بمعنى علم الله لهذه المناسبة .
والآن يجب أن نفكّر بدقّة وبشكل صحيح بأنّه قد يكفي أحياناً قلم واحد مع مقدار من الحبر لكتابة كلّ المعلومات التي تتعلّق بإنسان ما ،بل قد يكون من الممكن أن يسجّل أفراد آخرون مجموعة معلوماتهم على الأوراق بنفس ذلك القلم ،إلاّ أنّ القرآن يقول: لو أنّ كلّ الأشجار الموجودة على سطح الأرض تصبح أقلاماًونحن نعلم أنّه قد تصنع من شجرة ضخمة ،من ساقها وأغصانها ،آلاف ،بل ملايين الأقلام ،ومع الأخذ بنظر الإعتبار المقدار العظيم للأشجار الموجودة في الأرض ،والغابات التي تغطّي الكثير من الجبال والسهول ،وعدد الأقلام الذي سينتج منها ..
وكذلك لو كانت كلّ البحار والمحيطات الموجودة ،والتي تشكّل ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة تقريباً ،بذلك العمق الساحق ،تصبح حبراً ،عند ذلك يتّضح عظمة ما سيكتب ،وكم من العلوم يمكن كتابتها بهذا المقدار من الأقلام والحبر !سيّما مع ملاحظة مضاعفة ذلك بإضافة سبعة أبحر أخرى ،وكلّ واحد منها يعادل كلّ محيطات الأرض ،وبالأخصّ إذا علمنا أنّ عدد السبعة هنا لا يعني العدد ،بل للكثرة والإشارة إلى البحار التي لا عدّ لها ،فعند ذلك ستّتضح سعة علم الله عزّ وجلّ وترامي أطرافه ،ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الأقلام والمحابر تنتهي ولكنّ علومه سبحانه لا تعرف النهاية .
هل يوجد تجسيد وتصوير للاّنهاية أروع وأبلغ وأجمل من هذا التجسيد ؟إنّ هذا العدد حيّ وناطق إلى الحدّ الذي يصطحب معه أمواج فكر الإنسان إلى الآفاق اللامحدودة ،ويغرقها في الحيرة والهيبة والجلال .
إنّ الإنسان يشعر مع هذا البيان البليغ الواضح أنّ معلوماته مقابل علم الله كالصفر مقابل اللانهاية ،ويليق به أن يقول فقط: إنّ علمي قد أوصلني إلى أن أطّلع على جهلي ،فحتّى التشبيه بالقطرة من البحر لتبيان هذه الحقيقة لا يبدو صحيحاً .
ومن جملة المسائل اللطيفة التي تلاحظ في الآية: أنّ الشجرة قد وردت بصيغة المفرد ،والأقلام قد وردت بصيغة الجمع ،وهذا تبيان لعدد الأقلام الكثيرة التي تنتج من شجرة واحدة بساقها وأغصانها .
وكذلك التعبير ب ( البحر ) بصيغة المفرد مع ( الف ولام ) الجنس ليشمل كلّ البحار والمحيطات على وجه الأرض ،خاصّة وأنّ كلّ بحار العالم ومحيطاته متّصلة ببعضها ،وهي في الواقع بحكم بحر واسع .
والطريف في الأمر أنّه لا يتحدّث في مورد الأقلام عن أقلام إضافية ومساعدة ،أمّا فيما يتعلّق بالبحار فإنّه يتحدّث عن سبعة أبحر أخرى ،لأنّ القلم يستهلك قليلا أثناء الكتابة ،والذي يستهلك أكثر هو الحبر .
انتخاب كلمة ( سبع ) للكثرة في لغة العرب ،ربّما كان بسبب أنّ السابقين كانوا يعتقدون أنّ عدد كواكب المنظومة الشمسية سبعة كواكبوفي أنّ ما يرى اليوم بالعين المجرّدة من المنظومة الشمسية سبعة كواكب لا أكثرومع ملاحظة أنّ الأسبوع دورة زمانية كاملة تتكوّن من سبعة أيّام لا أكثر ،وأنّهم كانوا يقسّمون كلّ الكرة الأرضية إلى سبع مناطق ،وكانوا قد وضعوا لها اسم الأقاليم السبعة ،سيتّضح لماذا انتخب عدد السبعة كعدد كامل من بين الأعداد ،واستعمل لبيان الكثرة{[3272]} .