قول تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه وجلاله ، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها ، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل:"لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك "، فقال تعالى:( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [ أي:ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما ، وجعل البحر مدادا ومده سبعة أبحر] معه ، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ، ونفد ماء البحر ، ولو جاء أمثالها مددا .
وإنما ذكرت "السبعة "على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر ولا [ أن] ثم سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم ، كما يقوله من تلقاه من كلام الإسرائيليين التي لا تصدق ولا تكذب ، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى:( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) [ الكهف:109] ، فليس المراد بقوله:( بمثله ) آخر فقط ، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله ، ثم هلم جرا; لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته .
وقال الحسن البصري:لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وقال الله:"إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا "لنفد ما في البحور ، وتكسرت الأقلام .
وقال قتادة:قال المشركون:إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال الله تعالى:( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) أي:لو كان شجر الأرض أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه .
وقال الربيع بن أنس:إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك:( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية .
يقول:لو كان البحر مدادا لكلمات الله والأشجار كلها أقلاما ، لانكسرت الأقلام ، وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ; لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ، ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه . إن ربنا كما يقول ، وفوق ما نقول .
وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود ، قال ابن إسحاق:حدثني ابن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ; أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة:يا محمد ، أرأيت قولك:( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ؟ [ الإسراء:85] ، إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلا ". فقالوا:ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم ". وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك:( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية .
وهكذا روي عن عكرمة ، وعطاء بن يسار . وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية ، والمشهور أنها مكية ، والله أعلم .
وقوله:( إن الله عزيز حكيم ) أي:عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه ، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه ، ( حكيم ) في خلقه وأمره ، وأقواله وأفعاله ، وشرعه وجميع شؤونه .