ثمّ تناولت الواجب الثّاني والثالث ،فقالت: ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) .
لا شكّ أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقاً ،إلاّ أنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان ،ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النّبي ( صلى الله عليه وآله ) والتحذير والقدوة للآخرين ،فهي تحذّرهم من الأخطار والعقبات المهمّة التي تعترض طريق القادة المخلصين ،والتي تجرّهم إلى المساومة والتسليم أثناء المسيرة ،وتتهيّأ أرضية هذا التسليم عن طريق التهديد تارةً ،وعن طريق منح الامتيازات تارةً اُخرى ،حتّى أنّ الإنسان قد يشتبه أحياناً فيظنّ أنّ الخضوع والامتثال لمثل هذه المساومة والاستسلام هو طريق الوصولإلى الهدف .في حين أنّ نتيجة هذا الاستسلام هي إجهاض كلّ الجهود والمساعي ،وإحباط كلّ جهاد وكفاح .
إنّ تأريخ الإسلام يبيّن أنّ الكافرين والمنافقين سعوا مراراً إلى جرّ النّبي ( صلى الله عليه وآله )إلى هذا الموضع ،فاقترحوا مرّة أن لا يذكر الأصنام بسوء ولا ينتقدها وينتقصها ،وقالوا مرّة اُخرى: ائذن لنا أن نعبد ربّك سنة ،واعبد آلهتنا سنة ،وكانوا يقولون أحياناً: أمهلنا سنة نقيم فيها على ديننا ثمّ نؤمن بك .واقترحوا عليه مرّة أن أبعد عنك فقراء المؤمنين ومساكينهم لنضمّ صوتنانحن الأثرياء ذوي المكانةإليك .وكانوا يعلنون أحياناً استعدادهم لبذل الامتيازات المالية والمركز والمنصب الحسّاس ،والنساء الجميلات وأمثال ذلك .
من المسلّم أنّ كلّ هذه كانت شراك خطيرة في طريق انتشار الإسلام السريع ،واقتلاع جذور الكفر والنفاق ،ولو كان النّبي ( صلى الله عليه وآله ) قد أظهر الليونة والميل إلى المساومة أمام واحد من هذه الاقتراحات فإنّ دعائم الثورة الإسلامية كانت ستنهار ،ولم تكن الجهود لتصل إلى نتيجة مطلقاً .
ثمّ تقول في الأمر الرابع والخامس: ( ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا ) .
إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النّبي ( صلى الله عليه وآله ) تحت ضغط شديد لحمله على الاستسلام ،واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كلّ أنواع الأذى ،سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة ،أم عن طريق الأذى الجسمي ،أو عن طريق الحصار الإقتصادي .وكان لهذا الأذى صورة واُسلوباً في مكّة ،واُسلوباً آخر في المدينة ،لأنّ «الأذى » جاء مطلقاً في الآية ويشمل كلّ أنواع الأذى .
ويرى «الراغب » في المفردات أنّ «الأذى » هو كلّ ضرر يصيب الكائن الحي ،سواء في روحه ،أو جسمه ،أو يصيب من يرتبط به ،سواء في الدنيا أم الآخرة .
وقد استعملت هذه الكلمة في الآيات القرآنية في «الأذى اللساني » تارةً كالآية ( 61 ) من سورة التوبة ،حيث تقول: ( ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو اُذن ) .
واستعملت أيضاً بمعنى «الأذى البدني » في آيات اُخرى ،كالآية ( 16 ) من سورة النساء: ( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ) أي يرتكبان الفاحشة ،فأقيموا عليهما الحدّ الشرعي .
يقول التاريخ: إنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى ،ولم يقبلوا عار الاستسلام والهزيمة قطّ ،وأخيراً انتصروا في حركتهم .
وكان أساس هذه المقاومة ومعينها هو «التوكل على الله » والاعتماد على ذاته المقدّسة ..الله الذي تتيسّر كلّ الصعاب والمشاكل أمام إرادته ..أجل يكفي الإنسان أن يكون معينه وناصره هذا الربّ الجليل .
وممّا قلناه اتّضح أنّ محتوى الآية المذكورة لم يكن نسخ لحكم الجهادكما يظنّ ذلك بعض المفسّرينبل الظاهر أنّ هذه الآيات قد نزلت بعد مدّة من نزول حكم الجهاد ،وهي في مصافّ الحوادث المتعلّقة بسورة الأحزاب .
إنّ هذا حكم لكلّ العصور والقرون ،بأن لا يصرف الأئمّة الإلهيون طاقاتهم الحيوية في الاهتمام بإيذاء مخالفيهم ،فإنّهم إن فعلوا ذلك وصرفوا قواهم وطاقاتهم في هذا المجال ،يكون عدوّهم قد حقّق هدفه ،لأنّه يريد أن يشغل فكر من يقابله ،ويهدر طاقاته عن هذا الطريق ..هنا يكون أمر ( دع أذاهم ) هو الحلّ الوحيد .
وهنا أمر يستحقّ الانتباه أيضاً ،وهو: أنّ الأوامر الخمسة المذكورة ،التي وردت في الآيتين الأخيرتين ،يكمل بعضها بعضاً ،ويرتبط بعضها ببعض ،فإنّ تبشير المؤمنين لجذب القوى المؤمنة ،وعدم الاستسلام للكفّار والمنافقين ،وعدم الاهتمام بأذاهم ،والتوكّل على الله تشكّل مجموعة مبادئ تؤدّي إلى الهدف ،ودستور عمل جامع لكلّ سالكي طريق الحقّ .