التّفسير
لا تزر وازرة وزر اُخرى:
بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان ،يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول: ما هي حاجة الله لأن يُعبد بحيث يصرّ كلّ هذا الإصرار ،ويؤكّد كلّ هذا التأكيد على عبادته وحده ؟لذا فإنّ هذه الآيات توضّح هذه الحقيقة وهي أنّنا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى ،فتقول الآية الكريمة: ( يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) .
فيا له من حديث مهمّ وقيم ذلك الذي يوضّح موقعنا في عالم الوجود من خالق الوجود ،ويكشف الكثير من الغموض ،ويجيب على الكثير من الأسئلة .
نعم ،فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه ،واحد أحد ،وهو الله تعالى ،وكلّ البشر بل كلّ الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع ارتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم ،فكما أنّه غير محتاج مطلقاً ،فإنّ البشر يمثّلون الفقر المطلق ،وكما أنّه قائم بذاته ،فالمخلوقات كلّها قائمة به تعالى ،لأنّه وجود لا متناهي من كلّ ناحية ،وواجب الوجود في الذات والصفات .
ومع حال كهذه ،ما حاجته تعالى لعبادتنا ؟!فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته ،ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي ،ونغترف من أنوار ذاته وصفاته .
وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى: ( ذلكم الله ربّكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ) .
وعليه فإنّ البشر محتاجون له لا لسواه ،لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا رؤوسهم لغيره تعالى ،وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلاّ منه تبارك اسمه ،لأنّ ما سوى الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه ،وحتّى أنّ تعظيم أنبياء الله وقادة الحقّ إنّما هو لأنّهم رسله تعالى وممثّلوه ،لا لذواتهم مستقلّة .
وعليه فهو «غني » كما أنّه «حميد » أي إنّه في عين استغنائه عن كلّ أحد ،فهو رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر ،وفي عين انّه أرحم الراحمين ،فهو غير محتاج لأحد مطلقاً .
الإلتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين ،فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب ،وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم يستقلّون به ،وأنّهم مؤتمنون على كلّ ما في أيديهم من جانب آخر ،لكي لا يمدّوا يد الحاجة إلى غيره ،ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم ،وأن يتحرّروا من كلّ تعلّق آخر ،ويعتمدوا على همّتهم ،وبهذه النظرة الشمولية يرى المؤمنون أنّ كلّ موجود في هذا العالم إنّما هو من أشعّة وجوده تعالى ،وأن لا ينشغلوا عن ( مسبّب الأسباب ) بالأسباب ذاتها .
جمع من الفلاسفة عدّوا هذه الآية إشارةً إلى البرهان المعروف «الإمكان والفقر » أو «الإمكان والوجوب » لإثبات واجب الوجود ،مع أنّ الآية ليست في مقام بيان الاستدلال على إثبات وجود الله ،بل إنّها شرح لصفاته تعالى ،ولكن يمكن اعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية .
شرح برهان الإمكان والوجوب «الفقر والغنى »:
إنّ جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلّها ذات يوم «عدماً » ،ثمّ اكتست بلباس الوجود ،أو بتعبير أدقّ: كان يوم لم تكن شيئاً فيه ،ثمّ صارت وجوداً ،وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّها معلولة في وجودها لوجود آخر ،وليس لها وجود من ذاتها .
ونعلم بأنّ أي وجود معلول ،مرتبط وقائم بعلّته وكلّه احتياج ،وإذا كانت تلك ( العلّة ) أيضاً معلولة لعلّة أخرى فإنّها بدورها ستكون محتاجة ،ولو تسلسل هذا الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة الفقيرة ،وبديهي أنّ مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبداً ،لأنّ منتهى الاحتياج احتياج ،ومنتهى الفقر فقر ،وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي عدد ،كما أنّه ممّا لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة استقلال .
من هنا نستنتج أنّنا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته ،ومستقل من جميع النواحي ،وهو علّة لا معلول ،وهو واجب الوجود .
هنا يثار السؤال التالي: لماذا تتعرّض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله فقط ؟بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر ؟
والجواب: إذا كان الإنسانالذي يعتبر سيّد المخلوقاتغارقاً في الحاجة والفقر إلى الله ،فإنّ حال بقيّة الموجودات واضحة ،وبتعبير آخر فإنّ بقيّة الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو «إمكان الوجود » .
وتخصيص الحديث في الإنسان إنّما هو لأجل كبح جماح غروره ،وإلفات نظره إلى حاجته إلى الله في كلّ حال ،وفي كلّ شيء وكلّ مكان ،ليكون ذلك أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية ،ذلك الالتفات الذي يؤدّي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص والحسد ،ويبعث على التواضع أمام الحقّ .