في الآية الأخيرةمن هذه الآياتيرد الجواب على طلب الكفّار في العودة إلى الدنيا فتقول الآية: ( إنّ الله عالم غيب السموات والأرض وإنّه عليم بذات الصدور ) .
الجملة الاُولى في الحقيقة دليل على الجملة الثانية ،أي إنّه كيف يمكن لعالم أسرار السموات والأرض وغيب عالم الوجود أن لا يكون عالماً بأسرار القلوب ؟!
نعم ،فهو سبحانه وتعالى يعلم أنّه لو استجاب لما طلبه منه أهل جهنّم ،وأعادهم إلى الدنيا فسوف يعاودون نفس المسيرة المنحرفة التي كانوا عليها ،كما أشارت إلى ذلك الآية ( 28 ) من سورة الأنعام: ( ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون ) .
إضافةً إلى ذلك فالآية تنبيه للمؤمنين على أن يسعوا لتحقيق الإخلاص في نيّاتهم ،وأن لا يأخذوا بنظر الاعتبار غير الله سبحانه وتعالى ،لأنّ أقلّ شائبة في نواياهم سيكون معلوماً لديه وباعثاً لمجازاتهم على قدر ذلك .
ملاحظتان
1ما هو المقصود من «ذات الصدور » ؟
ورد هذا اللفظ بتفاوت يسير في أكثر من عشرة آيات من القرآن الكريم ( إنّ الله عليم بذات الصدور ) .
لفظة «ذات » التي مذكّرها «ذو » في الأصل بمعنى «الصاحب » مع أنّها وردت لدى الفلاسفة بمعنى «العين والحقيقة وجوهر الأشياء » ،ولكن على ما قاله ( الراغب ) في مفرداته فإنّ هذا الاصطلاح لا وجود له في كلام العرب .
وبناءً على ذلك فإنّ المقصود من جملة ( إنّ الله عليم بذات الصدور ) أنّ الله يعلم صاحب ومالك القلوب ،وهي كناية لطيفة عن عقائد ونوايا الناس ،إذ أنّ الاعتقادات والنوايا عندما تستقر في القلب تكون كأنّها مالك القلب ،والحاكم فيه ،ولهذا السبب تعدّ تلك العقائد والنوايا صاحباً ومالكاً للقلب الإنساني .
وذلك تماماً ما صاغه بعض كبار العلماء استفادة من هذا المعنى فقالوا: الإنسان آراؤه وأفكاره ،لا صورته وأعضاؤه »{[3635]} .
2لا سبيل للرجوع !
من المسلّم به أنّ القيامة والحياة بعد الموت مرحلة تكاملية نسبة إلى الدنيا ،وأنّ الرجوع إلى هذه الدنيا ليس معقولا ،فهل يمكننا العودة إلى الأمس ؟هل يمكن للوليد أن يعود إلى طي الأدوار الجنينية من جديد ؟وهل يمكن للثمرة التي قطفت من غصنها أن تعاد إليه مرّة ثانية ؟لهذا السبب فإنّ العودة إلى الدنيا غير ممكنة لأهل الآخرة .
وعلى فرض إمكانية تلك العودة فإنّ هذا الإنسان الكثير النسيان سوف لن يقوم بغير إدامة أعماله السابقة !
ولا نذهب بعيداً ،فنحن مرّات عديدة وفي شرائط بعض الضائقات الحياتية ،نتّخذ قراراً مخلصاً بيننا وبين الله على القيام بعمل ما أو ترك عمل ما ،ولكن بمجرّد تغيير تلك الشرائط يتغيّر قولنا وننسى قراراتنا ،إلاّ إذا تحقّق لشخص ما تحوّل جدّي حقيقي ،لا تحوّل مشروط بتلك الشرائط التي بتغيّرها يعود إلى سابق حاله .
هذه الحقيقة وردت في آيات متعدّدة من القرآن المجيد ،من جملتها ما ورد في الآية ( 28 ) من سورة الأنعام التي أشرنا إليها قبل قليل ،حيث تكذّب هؤلاء وتردّهم .
ولكن الآية ( 53 ) من سورة الأعراف تكتفي فقط بأنّ هؤلاء الأفراد خاسرون ،ولكن لم تردّ بصراحة على طلبهم للعودة: ( فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نردّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل قد خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ) .
نفس هذا المعنى ورد بشكل آخر في الآيات ( 107 ) و( 108 ) من سورة المؤمنون: ( ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا تكلّمون ) .
على كلّ حال ،فتلك مطالب غير ذات جدوى ،وأماني عديمة التحقّق ،ويحتمل أنّهم هم أيضاً يعلمون ذلك ،ولكنّهم لشدّة العذاب وانسداد جميع المنافذ أمامهم يكرّرون هذه المطالب .